للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[بيئة المقال الصحفي في مصر]

[مدخل]

...

أ- بيئة المقال الصحفي في مصر:

إذا كان "التفكير ظاهرة اجتماعية" كما يقول طه حسين١, بمعنى أن الفرد لا يفكر ولا يقدر ولا يروي إلّا من حيث هو عضو من أعضاء الجماعة التي يعيش فيها, والتي يستحضرها في نفسه استحضارًا ملحوظًا أو غير ملحوظ حين يفكِّرُ أو يُقَدِّرُ أو يروي، فإن المقال الصحفي أوضح الظواهر الاجتماعية بين فنون القول، فعبقرية الكُتَّاب والصحفيين من أمثال "ديفو defoe وستيل Steel" وأديسون Adisson و"جولد سميث Gold Smith" التي لا يمكن إنكارها، لا يمكن كذلك أن يعزى إليها وحدها هذا الفن الرائع بثروته وجماله، وغزارته وإتقانه,٢ وعلى ذلك فإن المقال الصحفي شأنه شأن فنون القول المختلفة "ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تكون إلّا في الجماعة التي تسمع الأثر الأدبي أو تقرؤه فتتأثر به، راضيةً عنه أو ساخطةً عليه، معجبةً به، أو زاهدةً فيه"٣.

على أن ذلك لا يعني محوَ المقومات الشخصية لقادة الرأي وحملة القلم، سواء اتخذوا المقال الصحفي أو الآداب أو الفلسفة لقيادتهم الفكرية وسائل، فلسنا نجهل أن "الفرد قوة تختلف عِظَمًا وضآلة, ولكنها قوة على كل حال، قوة لها أثرها في تكوين القوة الاجتماعية، بل لها أثرها العظيم في تكوين هذه القوة"٤ فليس من سبيلٍ إذن إلى تصوّر الفرد مستقلًّا، وإنما هو -كما يقول طه حسين: "أثر اجتماعي وظاهرة من ظواهر الاجتماع، لا يوجد إلّا إذا التقى الجنسان، فإذا وُجِدَ فالجماعة كلها متعاونة متظاهرة على تنشئته وتربية جسمه وعقله وشعوره، وعواطفه, وهل التربية المادية والمعنوية إلّا قالب يُصَاغُ فيه الفرد على صورة الجماعة التي ينشأ فيها، يتعلَّم الفرد بهذه التربية اللغة التي يتكلمها وليس هو الذي يحدث هذه اللغة".٥

وتأسيسًا على هذا الفهم، فليس من أصول البحث العلمي في شيء كما يقول طه حسين في "قادة الفكر"٦، أن نجعل الفرد كل شيء ونمحو الجماعة التي أنشأته وكوَّنته، إنما السبيل أن "نقدِّرَ الجماعة وأن نقدِّرَ الفرد", وأن نجتهد ما استطعنا في تحديد الصلة بينهما، وفي تعيين ما لكليهما من أثر في الآداب والآراء الفلسفية والنظم الاجتماعية والسياسية المختلفة".

وعلى ذلك فإننا نجتهد ما استطعنا في هذا الفصل في تحديد الصلة بين بيئة المقال الصحفي في مصر وبيئة التكوين للدكتور طه حسين، ثم الصلة بين هذه البيئة العامة ومقوَّمَاته الشخصية في فصل تالٍ، لنتعرف على ما لكليهما من أثرٍ في مقومات المقال الصحفي، الذي لولا "ملاءمة البيئة لعبقرية كتابه، وتفاعلهما معًا، وتجاوب القرّاء لما أمكن ظهور هذا الفنِّ ثم ازدهاره"٧, ودراسة هذه البيئة الصحفية تقتضي العناية بدراسة: البيئة المصرية والحيوات السياسية والاجتماعية والفكرية.


١ الدكتور طه حسين: مجلة الثقافة، في ٣٠ يناير ١٩٣٩.
٢ الدكتور إبراهيم إمام: فن المقال الصحفي في الأدب الإنجليزي ص٣١.
٣ الدكتور طه حسين: مرجع سابق، أيضًا، فصول في الأدب والنقد ص٦، ٧.
٤، ٥، ٦ الدكتور طه حسين: قادة الفكر ص٧، ٨.
٧ الدكتور إبراهيم إمام: المرجع السابق الإشارة إليه ص٣١.

<<  <   >  >>