للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الملاحظات ويقارن بينها, ويحاول أن ينقل المعاني الحقيقية التي تكمن وراء المحسوسات، ويتعزّى "بجمال الأدب والفن والموسيقى عن قبح السياسة والمنافع وغدر الغادرين ومكر الماكرين وخيانة الخائنين"١ ويسخر من موقف الاتجاه الفكري المحافظ من "الشعر الجاهلي" في سخطٍ هادئ, ونقمة رزينة تكمن وراء التنوير بالمعايير العصرية التي يستمدُّها من أسفاره عبر البحر٢, وعبر الزمان أيضًا، فمقاله في زيارة "أثينا" يصف اختصار الزمان ليخلص للقيم الإيجابية في الماضي أو "لقطعة منه، ويمضي في المستقبل إلى غير غاية أو هدى، ويقف في الحاضر لا يعدوه إلى أمام ولا إلى وراء، ويجمع إن شاء بين هذا كله فيفرق نصه تفريقًا٣، ولكنه مع ذلك يصور "نشأة العقل ونمو الفن وحياة الشعور ويقظة الضمير، ويرى طريق الحضارة والرقي ترسم للأجيال وتقام فيها الأعلام تدفع إليها الإنسانية دفعًا"٤.

وطه حسين لا يستخدم السليقة الفنية في هذا التصوير بهدف الفرار من الواقع, ولكنه يستخدمها في تصوير النموذج السياسي والاجتماعي المنشود، فهو يذكر في مقاله عن اليونان كيف "نظمت القوانين ما يكون من الصلات بين الحاكمين والمحكومين، وردَّت القوانين إلى الشعب أمور الشعب، وجعلت القوانين حكام الشعب خدمًا للشعب٥".. إلخ. فهو يتمثل النموذج الذي يتغياه لمجتمعه، حين يستدعي سقراط ومحاوريه وأفلاطون ومناظريه وأرسطاطاليس وتلاميذه"٦ ويبرأ إليهم "جميعًا من الشر والنكر والإثم"٧ ويشهدهم جميعًا على أنه قد وفَّى "لمثلهم العليا"٨.

ويختم هذا المقال بعودته إلى الواقع حين تدعوه زوجته قائلة: "فعد إلى القرن العشرين بعد المسيح، وأهبط معنا إلى حيث يعيش الناس في المدينة الحية، فقد يخيِّل إلي أنك أنسيت قهوة الضحى"٩. وبهذا القول يتحدد الانتقال بالمقال الوصفي من ذاتية الأدب إلى موضوعية الفن الصحفي، حيث يذهب في مقالاته التالية إلى الاعتماد على وصف الواقع الملموس، وإيراد الشواهد المشتقة من هذا الواقع، يقول أولًا، في تحقيق ما سمع عن البلد الذي يصفه بما رأى كشاهد عيان، "فما أكثر ما قرأوا, وما أكثر ما سمعوا عن حياة اليونان في بلادهم! قوم يقولون أنها بلغت من البؤس أقصاه، وقوم يقولون إنها بلغت من النعيم أقصاه، وقوم يقولون إن اليونان كغيرهم من الناس قد


١، ٢، ٣ رحلة الربيع والصيف ص١٧، ٥، ٦، ٧.
٤ المرجع نفسه ص٧، ٨، ١١.
٥ المرجع نفسه ص٧، ٨، ١١.
٦، ٧، ٨، ٩ المرجع نفسه ص١١.

<<  <   >  >>