للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقوم المقال الرمزي عند طه حسين على دعامة فلسفية تستند إليها الرمزية الأوربية، إلى جانب الدعامة الواقعية العملية، كما يبين من فلسفة "كانت" التي تفسح مجالًا لعالم الأفكار، وتصرِّحُ بتعذُّر معرفة العالم الخارجي عن غير طريق صوره المنعكسة فينا١. على أن الدعامة الواقعية في المقال الرمزي عند طه حسين تخرج به من نطاق الذاتية في الرمز إلى البحث عن العلل السياسية والاجتماعية المستعصية على الدلالة اللغوية المباشرة، فهو يَحْفَلُ بسواد الشعب والناس، وليس كالأدب الرمزي الذي يتوجَّه إلى الصفوة، ذلك أنه يحفل بإخضاع الواقع الملموس للفكر الفني قصدًا إلى السيطرة عليه عن وعيٍ, والتعبير عن مشكلات المجتمع؛ مستعينًا بثقافته القديمة والحديثة في تفكيره الفني، مستهدفًا خدمة التفكير الحر والديمقراطية، أي: في الدفاع عن الآراء المضادة لتلك التي يعتنقها بعض الحكام في مصر، في أسلوب رغم رمزيته، يتميز بالوضوح والإفهام والموسيقى دائمًا، فهو يتكون من جُمَلٍ قصيرة تحتوي على إشارات موحية إلى جانب معرفته العظيمة بكل صور الفن، وهذا هو السبب في أن المقال الرمزي يبدو كما لو كان اقتباسًا أو محاكاة معقودة لغرض وظيفي، كما سيجيء في "الرسائل الجاحظية".

ومن ذلك يبين أن الرمزية في مقال طه حسين ليست تشبيهًا حُذِفَ أحد طرفيه، كما فهم بعض أدبائنا٢, ولكنها تعبيرات وصور جزئية تتعاون في بنية المقال لتَشِفَّ عن صورة مقالية لا يمكن التصريح عنها، تتعاون فيها الوسائل الفنية تعاونًا وظيفيًّا لأداء غرض المقال, وهو الأمر الذي يشير إليه طه حسين، حين يؤدي هذا الأسلوب الرمزي وظيفته الاتصالية بجمهور القراء، الذين يعتقدون أن كل كلمة فيه "ذات معنى ظاهر وباطن، وأن لها معنًى قريبًا يتخذ وسيلة إلى معنًى بعيد، وغاية يسيرة تُخْفِي وراءها غاية يسيرة"٣. ذلك أن هؤلاء القراء كانوا على اتصال وثيق بالظروف التي أدت بالكاتب إلى التوسُّلِ بالرمز الذي يكاد أن يكون "لغة سرية" بين الكاتب وجماهير القراء، لا يفهمهما الرقيب الذي يعينه الساسة والحكام الذين أَدَّتْ سياستهم بالمصريين إلى "كثير من الشك وكثير من الخوف، وكثير من سوء الظن الذي أوشك أن يصبح أصلًا من أصول الحياة، وقاعدة من قواعد التعامل بين الناس"٤.

ومن أجل ذلك، تغدو الدعابة والسخرية والفكاهة أدوات وظيفية لاذعة


١ الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سابق ص٣٧٣.
٢ المرجع نفسه ص٣٦٠.
٣، ٤ البلاغ في ١٥ مايو ١٩٤٥, بين ٧٨، ٧٩.

<<  <   >  >>