ورأينا كيف تميَّزَ العمود الصحفي عند طه حسين، بأن المضمون فيه ليس شطرًا منضافًا إليه، وإنما يشكل صلبه ومنطلقه، ولذلك وجدناه يتوسّل بشكل "الإبيجراما" الشعري القصير كما سماه اليونانيون واللاتينيون، في ابتداع مقال عمودي جديد، يقوم على أصوله في تعبير نثري قصير، يتفق ومقتضيات الفن الصحفي الحديث, إلى أن المعنى فيه أثر من آثار العقل والإرادة والقلب جميعًا.
وقد وجدنا طه حسين يبرع في "فن اليوميات الصحفية" و"فن المقال الاعترافي" الذي وجدنا فيه أساسًا لفن اليوميات في الصحافة المصرية يهدف إلى نقد القيم على صعيدين رئيسيين: الصعيد الاجتماعي، والصعيد الثقافي، من خلال أسلوب يتَّسِم بالصدق أولًا، والنمذجة الصحفية والتصوير النفسي بعد ذلك.
وتعرَّفْنَا على امتداد الوظيفة الاجتماعية الفكرية في فن المقال الصحفي في أدب طه حسين، من خلال توظيف الفنون المقالية في صحافته التي ترتبط بحركة الأحداث في المجتمع، على النحو الذي تبيَّنَ من دراسة فن المقال الرئيسي الافتتاحي، وفن المقال النزالي، والمقال الكاريكاتيري، ثم المقال التحليلي والتقويم الصحفي، ذلك أن هذه الفنون المقالية، شأنها شأن الفنون الأخرى في صحافة طه حسين, لا تفصل بين أسلوب التحرير ومضمون المقال، من خلال نموذج اتصالي بالجماهير يَتَمَثَّلُ فيه مكانه من قيادة الفكر في تكوين الرأي العام المصري، الأمر الذي وجَّه مقاله الصحفي إلى النهوض بمهام التوجيه والإرشاد والتقويم والتثقيف والتنشئة الاجتماعية والتبسيط والتحليل، وهو لذلك يعنى بالاجتماع والسياسة والاقتصاد عنايته بالفنِّ والثقافة جميعًا، بحيث يمكن القول أن طه حسين قد انتقل بالمقال الصحفي من مرحلته اللغوية الأولى، إلى حيث أصبح يمثِّلُُ العقل الذي يفسر ويوازن ويحلل ويشرح، ويشتق موضوعاته من الحياة الواقعية، في مستوى عملي يمتاز بلغته العربية الفصحى، وأسلوبه الواضح البسيط على نحو ما تمثله البلاغة الجديدة في الاتصال بالجماهير عند طه حسين.
هذا، وقد حرصت في هذه الدراسة على التزام الحيدة العلمية والإنصاف لطه حسين أو لمعارضيه في بعض مبادئه، بأقصى ما وسعني الجهد فيهما، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى شيء من ذلك، فجل من لا يخطئ تحيزًا أو قصورًا في عالم البشر.