للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على أن مصر قد عرفت الصحافة بهذا المفهوم منذ سبعة وثلاثين قرنًا١, فهناك وثيقة يرجع عهدها إلى سنة ١٧٥٠ قبل الميلاد تدل على وجود جريدة رسمية تنطق بلسان الحكومة, ويكتب فيها الوزير "رخمارا" مقالات تبيِّنُ اتجاهات الحكومة٢. ومن العجيب أن ورق البردي انقرض من العالم وحلَّت محله هذه الأوراق التي تجمعها الكتب بين دفتيها، وذهب النسخ وجاءت المطبعة, ولا يزال الاسم الذي أطلق على ورق البردي Papyrus هو الأصل الذي اشتقت منه الأسماء التي تطلق على الورق والصحف في اللغات العربية؛ فورقة البردي التي سميت "بريس" بدار الكتب الأهلية بباريس تُعَدُّ -كما يقول "جوستاف لوبون"٣- أقدم من أشعار هوميروس وأقدم من كتب التوراة، ويرجع عهدها إلى الأسرة الثانية عشرة، ففيها إذن ما خطَّته الأقلام منذ خمسة آلاف من السنين٤.

من ذلك تبيّن لنا قيمة هذه الوثيقة العريقة والتي حملت اسمًا ذا دلالة حديثه في لغة الحضارة Presse إلى جانب ما توحي إليه من جذور مقالية في التراث القديم، إذ تضمَّنَت مقالًا أخلاقيًّا ألف "كامكنا" في حكم الملك سنيفرو من الأسرة الثالثة، ومعلومات فتاحوتب التي ترجع إلى الأسرة الخامسة٥. وإلى جانب هذه الوثيقة عرفت مصر لونًا من صحافة الرأي في النقد والتوجيه والمعارضة، كالصحف التي ناوأت الملك رمسيس الثالث, كما عرفت النزال في صحفها "الهزلية" التي تناولت بالنقد الشديد والتهكم المرِّ فراعنة مصر، على النحو الذي اتجهت إليه "صحيفة القصر".

فالدارس للنماذج المقالية الباقية من مصر القديمة يلاحظ أنها تقوم على تقاليد مكينة وعريقة، ذلك أن المقال المصري يرتبط بشغف المصريين بتعلُّم الآداب، فجاءت مقالاتهم ثمرة رقيٍّ طويلٍ في طرائق الكتابة للجماهير، وطرقت موضوعات أخلاقية واجتماعية وفكرية وسياسية، وقد لا يكون منتجًا أن نتقرى أوجة الشبه أو وجوه الاختلاف بين الشكل القديم للمقال المصري، والشكل المحدث في صحافتنا اليوم، وإن كان هذان الشكلان يلتقيان ويفترقان، فقامت النماذج القديمة بوظائف المقال، حين اقتربت منه في تنوّع الموضوع، وحينما ذهبت معه لتخاطب الجماهير، فتميَّزت بسلامة الفكرة وسذاجة التعبير، وإن كانت قد اتجهت مع التقدُّم التاريخي إلى التأنق والتكلُّف في الأسلوب والتعقيد في


١، ٢ الدكتور محمود نجيب أبو الليل: الصحافة الفرنسية في مصر منذ نشأتها حتى نهاية الثورة العرابية ص٣١٢.
٣، ٤، ٥ جوستاف لوبون "وترجمة صادق رستم": الحضارة المصرية ص١٠٨.

<<  <   >  >>