للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن يكتبوا فيه حين يؤلفون الكتب شعرًا أيضًا, وإنما يصطنعون النثر في هذا العصر كما اصطنعوه في جميع العصور منذ تقدَّمت الحضارة لتأدية أغراضهم المختلفة"١.

والخصلة الثالثة، عند طه حسين، أنه قد ألمَّ بحظٍّ كبير من الثقافة الأوربية، وذاقها وتمثلها، فأخذ من هذه الحضارة الأوربية شيئًا خفيف الظل, قوي التأثير في الوقت نفسه، يستطيع أن يلائم مصريته الموروثة وبغداديته المكتسبة"٢, فتكَوَّن له من هذه الخصال الثلاث مزاج غريب اشتركت في إنشائه بغداد الجاحظ, وصعيد مصر, وباريس.

اشتركت في تكوين هذا "الإحساس الساخر" في مقال طه حسين هذه الخصال الثلاث, ووفقت في هذا التكوين إلى أبعد مدى، وإلى مدى تتوازن فيه هذه العناصر وتأتلف، "ويحب بعضها بعضًا، ويطمئن بعضها إلى بعض، ويجتهد كلٌّ منهما في أن يعين صاحبيه"٣ ومن هنا كان مقال طه حسين مرضيًا مقنعًا لطبقات المثقفين جميعًا؛ إذا قرأه الأزهريون أعجبوا به؛ لأن فيه شيئًا من الأزهر، شأنه في ذلك شأن الشيخ عبد العزيز البشري٤، وإذا قرأه أبناء المدارس المدنية أعجبوا به؛ لأن فيه روحًا من أوربا, وإذا قرأه أوساط الناس الذين ليسوا من أولئك ولا هؤلاء، أعجبوا به؛ لأن فيه الروح العربي الخالص الجاحظي، ولعله لا يتعمَّد ذلك ولايصطنعه، وإنما هو وحي الطبع وإملاء الفطرة، من خلال جملة عربية رصينة، تمتاز بقوة الحسِّ التي تجعل كاتبها "لا يكاد يمر به شيء إلا التقطه التقاطًا، ورسمه في نفسه رسمًا, يخالطها مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منها, ثم هو لا يكتفي بالتأثير وانتقاء ما يعرض لنفسه من الأشياء والخواطر، ولكنه سريع التأثُّر والتأثير. فهو إذا أحسَّ لا يكنُّ ما يحسُّه، ولكنه يعلنه ويظهره٥ فهو يتلقى الأشياء -كصحفي- مسرعًا "ويعكسها مسرعًا. وتعمل نفسه الخفية أو ضميره المكنون فيما بين ذلك عملها الغريب الذي يظهر خواطره وأحكامه وتصويره للأشياء, كأروع ما تكون الخواطر والأحكام والتصوير"٦.

وليس هذا المنهج في تلقي الأشياء منهجًا صحفيًّا فحسب، ولكنه عند طه حسين منهج مستفاد من أسلوب المصريين في قياس الأمور بمقياس الوقائع والتجارب العيانية٧، وهو المقياس الذي يقوم على إدراك النقائض بين الأشكال والصور, وبوجه التفاته إلى المشابهات اللفظية والتجنيسات المعنوية٨.


١ من أدبنا المعاصر ص١٥٨، ١٦٠.
٢، ٣، ٤ من مقدمة الدكتور طه حسين لكتاب البشري، مرجع سابق س و.
٥، ٦ المرجع نفسه ص٢.
٧، ٨ عبد العزيز شرف: عباس محمود العقاد بين الصحافة والأدب، السابق.

<<  <   >  >>