للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"هم إذن غرابيل لا ينبغي أن تلقى إليهم الأسرار، ولا ينبغي أن يؤتمنوا على الأحاديث, وإنما يجب أن يستأثر رئيس الوزراء من دونهم بأسرار الدولة وشئونها ذات الخطر، فهم قد أذاعوا -إن صحت أنباء الأهرام- أسرارًا أقل ما توصف به أنها مزرية بكرامة الدولة، غاضَّة من قدرها، تظهرها مضطربة جزعة، لما يذاع من الأنباء عن نقل المندوب السامي من مصر، أو رجوعه إليها، وإقامته فيها، وتظهرها فزعة هلعة، لما يقال من أن اللجنة الإنجليزية المصرية راضية عن النظام القائم، أو ساخطة عليه، مؤيدة للوزارة أو متنكرة لها, وليس من كرامة الوزارة بحالٍ من الأحوال في نفوس المصريين، سواء كانوا من أصدقائها، أو من خصومها، أن تظهر على الوزارة أعراض هذا الضعف المخجل، وهي التي تتحدث بالاستقلال، وتزعم أنها شديدة التعلق بأسبابه، غالية في الحرص لأعلى مظاهره وأشكاله، بل على حقائقه التي لا تقبل الشك ولا تحتمل النزاع١".

ثم يستشهد بقول الشاعر القديم للحجاج؛ بعد أن يقول: "إن كل مصري يستحي أن يعرف الأجانب الذين لا يقفون على دخائل الأمور، إن هذه الوزارة التي تذيق المصريين ألوان العذاب تخاف من الإنجليز إلى هذا الحد، وتجزع من سعي اللجنة الإنجليزية المصرية إلى هذا الحد، فهي تلقى المصريين بالشدة والعنف، وتلقى الإنجليز بالضراعة والخوف"٢. ولعل في ذلك ما يفسر تمثله بقول الشاعر القديم، من خلال الشواهد العملية المستقاة من الواقع السياسي المعاش. ذلك أن القسم الأول من المقال يمثل حملة قوية يشنها طه حسين على الوزارة الصدقية، التي سارت في طريق الزيغ والضلال والاستبداد، ثم ينتقل في القسم الثاني إلى تفصيل ما أجمل في قسمه الأول، ويشرع بالرد على الشواهد المنسوبة إلى "الأهرام" في استطراد عُرِفَ به الجاحظ من قبل، ليشير بها إلى أن هذه الوزارة لا تتمالك نفسها، مشبهًا أعضاءها بأنهم "غرابيل" تظهر عليها "أعراض هذا الضعف المخجل" أمام الإنجليز, وهي التي في الجانب الآخر "تلقى المصريين بالشدة والعنف"، متوسِّلًا في هذا المقال باستعارات أضفت على الكاريكاتير بلاغة صحفية، وفيما عدا ذلك عدل طه حسين عن أسلوب المجاز إلى أسلوب الحقيقة تاركًا نفسه على سجيتها. وقد عمد تجاه "الخبر" الذي نشرته الأهرام إلى إسناده إليها ليكون في حِلٍّ من تبعته، فالعهدة على الراوي، والاعتماد على السند ظاهرة هامة تتمثَّل فيها أقوى سمات التحقق والتيقن التي أخذ بها العلماء المسلمون, وكان رجال الحديث أول من عمد إليها, ثم سرت إلى سائر أوجه المعرفة من تاريخ وأدب وشعر وسيرة.. فهذه الظاهرة الصحفية عند طه حسين أثر من آثار ثقافته العربية الإسلامية. الأمر الذي


١، ٢ المرجع نفسه.

<<  <   >  >>