للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اللفظ من الوجهة اللغوية وبراءته من العامية والابتذال, وأصبح أنصار الجديد لا ينفرون من البديع والبيان، فقد استراحوا من البديع والبيان، وإنما ينفرون من الإغراق في هذا الأدب العربي القديم، ويطمحون إلى تقليد الأدب الغربي الحديث, واصطناع الألفاظ الأوربية الأعجمية. اشتد هذا الجهاد بين أنصار القديم والجديد في العقد الأوّل من هذا القرن، وكان السوريون بنوع خاصٍّ من أشد الناس نصرًا للجديد، وكان شيوخ مصر هؤلاء الذين توسَّطوا بين الأزهر والمدارس المدنية؛ لأنهم تخرجوا في دار العلوم من أشد أنصار القديم، وكان العلم يزداد انتشارًا, والشباب يزداد إمعانًا في الاتصال بأوربا والتغذي بما فيها من علمٍ وأدبٍ١، ثم كانت حركة وطنية في مصر قوية غُذَّت بها الصحف, واندفعت فيها اندفاعًا شديدًا, وكان الشبان قوة هذه الحركة, ومَن الذي يستطيع أن يأخذ الصحف المندفعة في حركتها السياسية بملاحظة القديم وانتقاء الألفاظ؟ ومَنْ الذي يستطيع أن يأخذ الشباب الثائر أن يتقيد بالقاموس أو لسان العرب؟ ولأمرٍ ما تجاوزت هذه الحركة السياسية مصر, وكانت الثورة في قسطنطينية, وأُعْلِنَ الدستور العثماني، ورُدَّتْ الحرية إلى الأقطار العربية العثمانية, فكان لهذا كله أثر قومي في النثر العربي، وكان هذا كله صدمة عنيفة لأنصار القديم من الكُتَّاب والشعراء، ذلك لأن الحركات السياسية نقلت الكتابة من بيئتها القديمة إلى بيئات جديدة ما كانت لتُكْتَبَ لولا هذه الحركات، فقد كانت الكتابة -كما كان العلم- حظًّا مقصورًا على بيئة خاصة من الناس, ثم أصبحت الكتابة كما أصبح العلم حظًّا شائعًا في الناس جميعًا. ومن ذا الذي يستطيع أن يأخذ الناس جميعًا بالتحرُّج فيما يكتبون, والتقيُّد بمعاجم اللغة وأساليب القدماء؟ "٢.

وكان الحرب الأولى، فاشتد الاتصال والمخالطة بين الشرق والغرب، وانتهيا إلى حدٍّ لم يُعْرَفْ من قبل، ثم انتهت هذه الحرب ونتج عنها ما نتج من هذه الثورة السياسية العامة في الشرق العربي كله، وأثَّرَ هذا في حياة الناس على اختلاف فروعها، فلم يكن بُدٌّ من أن يتوسَّل هذا التأثير بالفن الصحفي، ومن أن يؤثِّر في لغته بنوعٍ خاصٍّ, ذلك أن هذه الثورة -كما يقول طه حسين٣ شغلت "الناس عن الحياة الأدبية والعلمية حينًا, وقصرت جهودهم على السياسة، ولكن هذه السياسة نفسها قد تركت في النثر العربي آثارًا لن تُمْحَى قبل عصر طويل، جعلته حادًّا عنيفًا، واستحدثت فيه فنونًا مختلفة, وأساليب متباينة من الطعن والخصومة لم يعرفها النثر العربي من قبل, ثم لم تَلْبَثْ السياسة


١، ٢ المرجع نفسه ص٧١، ٧٢، ٧٣.
٣ المرجع نفسه ص٧١، ٧٢، ٧٣.

<<  <   >  >>