والمقام لا يتسع لذكر أعلام هذه الأسرة التي كان لها دور مؤثر وفعال في ميادين العلم والقضاء والكفاح في سبيل المحافظة على صفاء العقيدة،في ثلاثة قرون، السادس والسابع والثامن للهجرة. ويكفينا نموذجاً ما ورد في مصنف " تحفة الترك " التي نحن بصدد تحقيقها من تلميحات تكاد تكون صريحة ومباشرة، إِلى الفساد المستشري في الدولة وأجهزتها ومرافقها، وضرورة إصلاحه. كما أنَ نكبة علم آخر من أعلام الأسرة، على يد برقوق والفقهاء، هو صدر الدين ابن أبي العز (٧٣١هـ - ٧٩٢) صاحب شرح العقيدة الطحاوية خير دليل على صلابة هذه الأسرة وتمسكها بالحق والفضيلة وعزة النفس، وجهادها في سبيل التوحيد الخالص. ولعل انتساب المؤلف إِلى هاتين الأسرتين المكينتين في العلم والفضل مما جعل المؤرخين لا يذكرون من أساتذته وشيوخه إلا النزر القليل، لأن العادة جرت بأن يقوم علماء كل أسرة بتدريس أبنائهم بأنفسهم. مولده: ولد بالمزة (٥٩) من ضواحي دمشق في ثاني محرم سنة عشرين وسبعمائة للهجرة - ١٣٢٠م -، وتوفى في شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة للهجرة - ١٣٥٧م. إلا أن تاريخ ميلاده تدخله الظنون من كل جانب. ابن كثير يذكر أنه في سنة ٧٣٤هـ كان عمره خمس عشرة سنة، فميلاده إذن في سنة ٧١٩هـ (البداية والنهاية ١٤/١٦٦) . وفى الطبقات السنية ميلاده سنة ٧٢١هـ (١/٢٤٦) . وفي المنهل الصافي لابن تغري بردي أنه أقام في القضاء أربعين سنة، أي أن سنة ٧٢٠ هـ أدركته وهو قاضٍ (١/١٢٩) . وشيخه أَبو نصر بن الشيرازي توفي سنة ٧٢٣هـ وليس من المعقول أنه أخذ عنه وهو ابن ثلاث سنوات. وشيخه الثاني الحجار توفي سنة ٧٣٠هـ وسنه عشر سنوات. إلا أن شهادة ابن كثير وهو الإمام الثبت الذي حضر أول درس ألقاه المؤلف ترجح نبوغه المبكر وتجعلنا نسلم بصغر سنه عند تلقيه علوم عصره وإتقانه لها، لاسيما ومصنفاته الكثيرة في عمره القصير - حوالي ٣٨ سنة - ليس لها من تفسير إلا أنه كان ظاهرة نادرة المثال. شخصيته: يجمع كل من ترجم له على اتصافه بعلو الهمة، وحدة الذكاء، وبداهة الحجة وقوتها، وسرعة الفهم وحسن الاشتغال بالعلم، وتحليه بأخلاق العلماء وقاراً ومهابة وحلماً وحسن سمت، ومحمود سيرة، وعفة وديانة وصيانة، وسياسة وتودداً، وملتقى حسناً، وهذه الصفات كلها ليست بمستغربة فيمن نشأ في أسرتي علم وفضل ودين وجاه. وقد عاش حياته القصيرة كلها في دمشق، لم يخرج منها إلا للحج، وكان أول خروج له إلى الديار المقدسة وعمره حوالي سبعة عشر عاماً، سنة ٧٣٧هـ، في وفد من كبار العلماء، وذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية - ١٤/١٧٧ - حيث قال:(وخرج الركب الشامي في يوم الاثنين عاشر شوال سنة ٧٣٧هـ، وأميره بهادر قبجق، وقاضيه محيي الدين الطرابلسي مدرس الحمصية، وفى الركب تقي الدين شيخ الشيوخ، وعماد الدين بن الشيرازي، ونجم الدين الطرسوسي، وجمال الدين المرداوي، وصاحبه شمس الدين بن مفلح، والصدر المالكي، والشرف القيسراني، والشيخ خالد المقيم عند دار الطعم، وجمال الدين بن الشهاب محمد) . ولاشك أن مرافقته وهو غلام يافع لهؤلاء العلماء الأفذاذ الذين يكبرونه سنا وتجربة وعلما وسابقة، قد ساهم في تكوين شخصيته وتعميق ثقافته وَخبرته، وإنضاج عقله وفكره واجتهاده. كما أن أبناء عمومته وأَخواله وأصدقاء والده، من العلماء والفقهاء والقضاة، الذين ذكر فضلهم وتقواهم وفتاواهم وآراءهم الفقهية واستنباطاتهم الاجتهادية، كانوا يترددون على أسرته، ويعقدون بحضوره المناظرات والمحاورات، وكان لهم فضل كبير في تكوينه السلوكي والثقافي وتوسيع مداركه، بالإضافة إِلى نشاطه الدؤوب طيلة حياته القصيرة، التي قضاها ناشراً للعلم بين الطلبة ومفتيا وواعظاً للعامة ومحاوراً لأقرانه من فقهاء المذاهب، ومدافعاً عن مذهبه الحنفي بقوة الحجة ودقيق الفهم والاستنباط، متسماً بالصدق والصراحة في النقد والتوجيه، غير منكر فضل أهل الفضل محلاًّ أهل العلم مكانتهم المعتبرة، حريصاً على فضح ممارسات أهل زمانه في ميدان الحكم والقضاء والإدارة والفتوى. علمه وفضله: لاشك في أن تصديه للتدريس في سن مبكرة، وبحضور فقهاء من كل المذاهب، وفيهم الأئمة والجهابذة، دلالة واضحة على سعة علمه وتبحره في فنون العصر وعلومه. وقد شهد كل من ترجم له ببلوغه المنزلة العليا في اللغة، والأَدب، والفقه والأصولين، وعلم الخلاف، والقواعد الفقهية، والمناظرة والإفتاء والقضاء والتدريس. قال عنه ابن تغري بردي في المنهل الصافي " (١/١١٩) :. (برع في الفقه والأصول والعربية وشارك في عدة فنون، وتصدر للإفتاء والتدريس مدة طويلة) . وقال عنه في "النجوم الزاهرة " (١٠/٣٢٦) : (كان - رحمه الله - إِماماً عالماً علامةً أَفتى ودرس) . وقال عنه ابن طولون في قضاة دمشق (ص١٩٨) : (برع في الأصول، ودرس وأفتى وناظر وأفاد) . وقال عنه ابن كثير في البداية والنهاية (١٤/١٦٦) عندما ألقى أول درس وعمره خمسة عشر عاماً: (وهو من النباهة والفهم وحسن الاشتغال والشكل والوقار بحيث غبط الحاضرون كلهم أَباه على ذلك، ولهذا آل أمره أن تولى قضاء القضاة في حياة أبيه، نزل له عنه وحمدت سيرته وأحكامه) . كما كان له نصيب من علم العروض والنظم، وألفيته في فروع الفقه الحنفي وأرجوزته في معرفة مابين الأشاعرة والحنفية من الخلاف في أصول الدين خير شاهد، ونظمه في غير الفقه لا يخلو من أصالة برغم أنه لا يعد من الفحول، وقد أورد ابن حجر في الدرر - ١/٤٣،٤٤ - قوله: من لي معيد في دمشق لياليا قضيتها والعود عندي أحمد بلد تفوق على البلاد شمائلا ويذوب غيظاً من ثراه العسجد