ومن المعقول عندهم أن الله تعالى ذم المنازعة والخلاف في القرآن الكريم، ونهانا عن الفرقة والتشتت فقال عز وجل:) أَنْ أَقِيْمُوا الدِّيْنَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيْهِ (الشورى ١٣. وصريح القرآن لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً، لأن الاختلاف سببه اشتباه الحق وعدم ظهوره، لانعدام العلم الذي يفرق بين الحق والباطل. والقياس يتضمن اشتباه الحق وعدم ظهوره لأنه من غير الله، فهو تشريع بشري، والتحاكم إليه تشريع بغير ما أنزل الله.) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّيْنِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ (. الشورى ٢١.) اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُوْنِ اللهِ (التوبة ٣١. وقد سئل داود الظاهري: (كيف تبطل القياس وقد أخذ به الشافعي؟) فقال: (أخذت أدلة الشافعي في إبطال الاستحسان فوجدتها تبطل القياس) . إن القضايا المتعلقة بهذا الصنف من الاستنباط من غير الأدلة الأصلية، حقيقة واقعة في المجتمع، حدثت وتحدث، ويتجدد شبيه لها ومخالف لها في كل عصر. والفقه الإسلامي واحد في هدفه ومواضيعه. ينبع من أصل واحد هو الكتاب والسنة. إلا أنه يتأثر بالبيئة التي يعمل فيها، تجارية أو سياسية أو اجتماعية، سلماً أو حرباً. ولا بد من تنظيم حياة الناس في هذا المجال، واستحداث حلول تساير النشاط البشري دفعاً للتظالم، وتحقيقاً للعدل والسلم، وتوفيراً لظروف تساهم في رقي الأمة ونهضتها. ولذلك رأى الفقهاء ضرورة استنباط أحكام للشرع في هذا الاتجاه. هذا الموقف عكس أيضاً مرونة التشريع الإسلامي وصلابته وبعد غوره، وإعجازه وصلاحيته لكل ظرف وحال. لكن مربط الفرس في الخلاف بين هذه المذاهب وبين المذهب الظاهري، هو جواز اعتبار هذه الاستنباطات تشريعاً إسلامياً أو عدم جواز ذلك. فإذا اعتبرناها تشريعاً إسلامياً خضعت للأحكام التكليفية الشرعية الخمسة ودخلت تحت طائلة الإيجاب والتحريم والندب والكراهة والإباحة، وما يستتبع ذلك من جزاءات دنيوية وأخروية، باعتبارها عبادةً لها أجرها أو ذنباً له وزره. ففقهاء المذاهب الأربعة الذين جشموا أنفسهم مشقة الاستنباط، رأوا أن لكل قضية حكماً لله فيها يجب على المجتهد إظهاره، وإلا أثمت الأمة كلها. لأن الاجتهاد فرض كفاية وفقهاء المذهب الظاهري يرون أن هذا الصنف من القضايا متروك على أصل البراءة، والحكم فيه بقاء ما كان على ما كان؛ لأن الله تعالى لم يخبرنا بحكمه فيه رحمة بنا وتوسعة علينا. إلا أن إهمال هذه القضايا وعدم تنظيم حياة الناس فيها مما يؤدي إلى الفوضى والتناقض، ويساهم في انتشار الظلم، ويعوق حركة المجتمع الإيجابية. ونحن في هذا الأمر بين رأي الظاهرية الذين يكادون يكفرون المجتهدين فيه، وبين فقهاء المذاهب الأخرى الذين يرون ترك الاجتهاد فيه إثماً وتفريطاً. ولكل فريق رأي وجيه إن جرد من التشنج والتعصب. فكيف نوفق بين الموقفين؟ كيف ننظم حياة الناس في هذه المجالات المستحدثة المتجددة، دون أن نكون قد تدخلنا في التشريع الإلهي، وحكمنا بغير ما أنزل الله، ودون أن نأثم بالتوقف عن الاجتهاد والمساهمة في حل مشاكل المسلمين؟ ينبغي أولاً أن نرد على الظاهرية بأن مفهومهم لأصل البراءة فيما ترك فيه التشريع رحمة، ليس مبرراً لتركه فوضى، بدعوى أن النص لم يبينه، أو أنه منعنا من تنظيمه وتقنينه؛ لأن الرحمة لا تعني ترك النظام والتنظيم، ولكن تعني عدم المساءلة الأُخروية فيه. كما أن المذاهب الأخرى وجهة نظرها مقبولة، من حيث وجوب تنظيم حياة الناس في هذا الصنف من القضايا؛ إلا أن جعل ما يستنبطونه فيه شرعاً إسلامياً صرفاً فيه نظر. ولا شك أن استنباطاتهم هذه نابعة من صميم الشريعة الإسلامية، وناشئة في ظلها وبتوجيهاتها العامة وحكمتها ومقاصدها ورحمتها. إذ من الطبيعي أن تنشأ في ظل كل تشريع أو قانون، تشريعات أو قوانين جزئية نابعة من روحه. فالقوانين الوضعية في أغلب البلاد الإسلامية مثلاً، ناشئة من روح القوانين الأوربية وفي ظلها، والقوانين الأوربية الحالية ناشئة من روح القوانين الرومانية الوثنية وفي ظلها. فإذا كانت هذه الاستنباطات الفقهية في هذا الميدان ناشئة من روح الشريعة الإسلامية وفي ظلها، وكان للدولة الإسلامية أن تتبنى بعضها وترفعها إلى مستوى قوانين ملزمة، وتقرر لمخالفتها جزاءات تنظيمية وإدارية وتعزيرية، من غير أن تدخلها تحت طائلة الإثم والمخالفة الدينية، نكون قد وفقنا بين المذاهب الأربعة وبين المذهب الظاهري، وقربنا شقة الخلاف، وفتحنا باب الوحدة التشريعية بين المسلمين، وفسحنا المجال لتطور المجتمع وتسريع حركة التجدد فيه. إلا أننا بهذا النهج في التعامل مع الموضوع محتاجون إلى: مراجعة شاملة ودقيقة لكل الاجتهادات الفقهية في هذا الميدان، وتصنيفها والاستفادة منها. وسوف نكتشف أن مجرد أحادية نظرتنا وتشنجنا، هو الحائل بيننا وبين الاستفادة منها. ولنضرب مثلاً لذلك، قضية فقهية بسيطة هي ما عرف بإزالة النجاسة بما سوى الماء، كالخل مثلاً. وهي جائزة عند أبي حنيفة ولا تجوز عند الشافعي. لكننا إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر، وجدنا أن فقهاء جميع المذاهب أصبحوا يعملون بديهة منهم وسليقة برأي أبي حنيفة؛ لأنهم يرسلون ملابسهم إلى المغاسل الآلية العامة التي تنظف بغير الماء، أي بالمواد الكميائية. فالمذهب الحنفي مثلاً في هذا الموضوع متقدم جداً على غيره. وكذلك نجد أن كل مذهب آخر متقدم على غيره في مجال آخر. اعتبار المذاهب الإسلامية كلها مجرد مدارس علمية فقهية لا غ ير، تتكامل فيما أصابت فيه وتتناصح فيما أخطأت فيه، وتتعاون لتنظيم شؤون الناس المتروكة لاجتهاد البشر رحمة من رب العالمين، تحت راية القرآن والسنة. إذ التفريط فيها يضر بالتشريع الإسلامي نفسه، والتفريط فيما حول الحمى يعصف بالحمى، والمحافظة على المندوب تحفظ الواجب، والذريعة إلى الإخلال بالمروءة إخلال بالمروءة في واقع الأمر. إلا أن هذا الاتجاه له من المحاذير والمخاطر ما يوجب التنبه له ومعالجته بيقظة وحزم. فقد يتخذ ذريعة للتحلل من أحكام الشرع، أو المجادلة بالباطل دون علم وصدق توجه. إذ ما حرف الاجتهاد أحياناً عن مساره الصحيح، إلا المجتهدون المغرضون، الراغبون في الدنيا، المعرضون عن الآخرة، أو الجهلة الذين يقتحمونه بهوى أنفس وفراغ عقول.
[فقه الأحكام السلطانية]
لا بد من الإشارة إلى أن التدوين في الفقه السياسي لدى المسلمين بدأ متأخراً عن تدوين كثير من العلوم الأخرى، وعلى غير يد الفقهاء المعتبرين، ومن مرجعية غير إسلامية صرفة. فقد ظهر أول المصنفات فيه ترديداً للفلسفة اليونانية ومترجمات الهند وفارس، على يد الفيلسوف المسلم الفارابي (٢٦٠ هـ - ٣٣٩ هـ / ٨٧٤م - ٩٥٠م) ، المتأثر بالآراء السياسية لأفلاطون وأرسطو؛ حيث تناول الفلسفة السياسية في عدة كتب منها: رسالات تحصيل السعادة، السياسة المدنية، رسالة السياسة، الفصول المدنية، آراء أهل المدينة الفاضلة.