ولو لم تعترض طريق الأمة، محنة انهيار نظم الحكم والمجتمع، وتوقف حركة العلم والفكر والاجتهاد، لكان للفقه الإسلامي شأن في حياة البشرية المعاصرة على اختلاف أديانها واتجاهاتها ومللها ونحلها. ومع ذلك، بأدنى مراجعة لتشريعات الغرب الحالية يتضح أن معظمها - قوانين ومساطر إجرائية -، متأثر بالفقه الإسلامي أصولاً وفروعاً قواعد ومناهج. ونحن إذا ما استعرضنا مجالات الخلاف في الأحكام الشرعية العملية المستنبطة وأسبابه، على مدار مراحل التشريع المتعاقبة، ألفينا أنها لا تكاد تخرج عن صنفين من الأحكام: صنف راجع إلى نصوص هي الأدلة النقلية كتاباً وسنةً وإجماعاً، أو حملاً عليها بالقياس. صنف راجع إلى أمارات هي ما سوى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، مثل الاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع وفتحها والمصلحة المرسلة والعرف، والعدول عن القياس الجلي الضعيف إلى القياس الخفي القوي، وما سوى ذلك من أمارات تكاد تصل الخمسين. أما الصنف الأول فمن أهم أسباب الخلاف فيه: قطعية دلالة النصوص وظنيتها. فالنص قطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه، ولا يحتمل تأويلاً، ولا مجال لفهم غيره منه. والنص ظني الدلالة هو ما يكون محتملاً لأكثر من معنى واحد. النصوص الموهمة بالتعارض مثل أن يحكم الرسول (ص) حكماً في حالة، وحكماً آخر بالنسبة للمسألة ذاتها في حالة أخرى. فيتوهم المجتهد التعارض، ولا تعارض لاختلاف الحكمين باختلاف الحالتين. منهج الفقيه في قبول أخبار الآحاد وسبرها ونقدها. فابن حنبل مثلاً يستغني بخبر الآحاد ولو ضعيفاً عن القياس والرأي، ومالك يشترط موافقة الصحيح لعمل أهل المدينة، والظاهرية يعتبرون الآحاد قطعية توجب العلم اليقين في العقيدة والعمل. قد يبين الشرع طريقتين أو طرقاً لبعض التصرفات الشرعية، والأخذ بأيّ منها جائز. فيتوهم بعض المجتهدين تعارضاً بين هذه الطرق. قد يكون الخلاف بسبب وقوع نسخ لم يعلم به الفقيه. قد يرد في الكتاب والسنة لفظ عام يراد به العموم، وآخر عام يراد به الخصوص، وقد يرد بصيغة الخصوص فيبدو من ظاهر الألفاظ التعارض ولا تعارض. كيفية تناول ألفاظ النصوص كتاباً وسنةً، وتأويلها، وتمييز نصها من ظاهرها ومحكمها من مفسرها، وخفيها من مشكلها،ومجملها من مبينها. الاختلاف في تعيين دلالات الألفاظ وهل هي بإشارة النص أو مفهوم الموافقة أو الأولى أو الاقتضاء، أو المخالفة، أو مفهوم اللقب، أو الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو من حيث دلالة الشمول في اللفظ عاما وخاصا، مطلقا ومقيدا، وكيفية تخصيص العام بالمتواتر أو الآحاد أو القياس أو المصلحة. وهذه الشمولية في مجال الاختلاف ليست عيبا في الفقه الإسلامي. بل هي من مميزات كماله ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان وحال. ومن خصائص شريعته الربانية ودينه الذي نسخ ما سبقه من أديان، ونبيه الذي ختمت به النبوة، وأحكامه التي هي حجة للناس أو عليهم إلى يوم القيامة. أما الصنف الثاني: من الاستنباطات الفقهية الراجعة إلى ما سوى الأدلة الأصلية، كتاباً وسنةً وإجماعاً وقياساً، وهي التي ركز عليها صاحب التحفة في خلافاته مع فقهاء غير مذهبه، فلابد أن نشير أولا إلى منهجي المذهبين الحنبلي والظاهري فيه. ذلك أن المذهب الحنبلي هو أشد المذاهب الأربعة حرفية في تناول الكتاب والسنة والإجماع، وفراراً من الرأي والحيل الشرعية والاستحسان؛ حتى إن فقهاءه لا يقيسون إلا عند الضرورة، ويفضلون على القياس خبر الآحاد أو الخبر الضعيف. وأدلة الشرع عندهم ثلاثة أضرب: أصل، ومفهوم أصل، واستصحاب حال. والأصل عندهم ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. والكتاب عندهم ضربان: مجمل ومفصل. والسنة ضربان: مسموعة من النبي (ص) ، ومنقولة عنه. والمنقول عنه (ص) : متواتر وآحاد، قول وفعل. أما المذهب الظاهري فهو أكثر تشدداً من الحنابلة في هذا الصنف من الاستدلال؛ لأنه لا يعترف إلا بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وينكر القياس والتقليد والاستحسان، وسد الذرائع، وعمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وما في حكم ذلك من الأمارات؟ ؛ وفقهاؤه يستندون في رفضهم لهذه الأدلة على ما فهموه من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والمعقول. فمن الكتاب قوله تعالى:) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكِ بِهِ عِلْمٌ (الإسراء ٣٦. وقوله تعالى:) يا أَيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُوْلِهِ (الحجرات ١. وقوله تعالى) وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُوْنَ (الأعراف ٣٣. ومن السنة: قوله (ص) : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ". وقوله (ص) : " ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم. ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم ". الحديث الأول عن أبي ثعلبة الخشني - (جامع المسانيد والسنن ١٣/٤٥٤) . والحديث الثاني رواه البخاري ومسلم. ومن الإجماع أن كثيراً من الصحابة قد ذم الرأي وسكت الباقون، فاعتبر هذا إجماعاً. وقد نقل عن أبي بكر - رضي الله عنه - قوله:(أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي) . وقال عمر رضي الله عنه:(إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) .