فكان الحكم في هذا العهد بين طائفتي المماليك والفقهاء، المماليك في السلطة والسياسة والمال والقوة العسكرية، والفقهاء في الشرع وأحكامه، وتوظيف استنباطاته لترويض العامة وحملهم على طاعة ولي الأمر. كما استحدث المماليك أسلوباً شيطانياً لضمان ولاء الفقهاء وضبطهم والتحكم فيهم، أسلوباً مبنياً على التفرقة وتسليط بعضهم على بعض، وإخضاع بعضهم ببعض، فعينوا لكل مذهب من المذاهب السنية الأربعة قاضي قضاة له نواب في المناطق النائية. (٣٩) ووزعوا قضاء العسكر والحريم والأوقاف والنظارة والحسبة على فقهاء السنة، وحرضوهم على بقايا التشيع التي تركها الفاطميون في المنطقة؛ فكان الرجل ينتقد الفساد المستشري، فيتهم بشتم الصحابة أو التشيع، وتقام عليه الحجة بعدول (٤٠)(الوقت) ، ثم يحال على القاضي المالكي الذي يجيز قتل ثلث الأمة استصلاحاً. ثم أذكوا نار التحاسد والبغضاء بين فقهاء السنة أنفسهم، وألقوا إليهم الأموال، فتكونت من بعضهم طبقة من الأثرياء لا هم لهم إلا التنافس على ثلاثة مكاسب دنيوية: أيهم أكثر ولاء للمماليك واستنباطاً للأحكام التي تضفي الشرعية على نظامهم وتصرفاتهم، فيزداد قرباً منهم وتمكيناً لديهم، وأيهم يكون أكثر أموالاً وأتباعاً من غيره، وأيهم يؤلف الكتب ويهديها إلى كبار رجال السلطة فترتفع منزلته عندهم. ثم استحدث المماليك سلاحاً آخر لضبط العلماء، هو عبارة عن مجالس تأديبية منهم، لمحاكمة بعضهم بعضاً؛ فكان الفقيه إذا أظهر تأففاً أو إنكاراً لمنكر، أو بدا منه ما يشير إلى صحوة ضمير، استغلت خلافاته الفقهية الاجتهادية مع منافسيه وخصومه من الفقهاء، وانتحلت له تهمة مخالفة الشرع، وعقد له مجلس من قضاة المذاهب وفقهائها، ثم عوقب تشهيراً أو جلداً أو سجناً؛ وقد ذهب ضحية هذه الأساليب القمعية أعيان من الفقهاء المجتهدين الأفذاذ، على رأسهم ابن تيمية (٤١) رحمه الله. إن عصر المماليك هذا كانت له آثار سلبية مدمرة، في عدة ميادين اجتماعية واقتصادية وثقافية، إلا أن منجزاته في مجال الدفاع عن أرض الإسلام كانت إيجابية ورائعة وليس لها مثيل؛ ذلك أن الحياة القاسية التي عاناها المماليك في صباهم، والتربية الدينية والعسكرية التي نُشِّئوا عليها، كونت منهم مقاتلين أشداء، وفرساناً أقوياء، ومدافعين عن سلطانهم مستميتين؛ واجهوا المغول وألحقوا بهم الهزائم، وأوقفوا زحفهم، وواجهوا بقايا الصليبيين في الشام، وأجلوهم عن المنطقة نهائياً. وفي الوقت الذي انحسر فيه النفوذ العربي عن السلطة في مشارق الوطن ومغاربه، وانكفأ العرب في غمار العامة المستضعفين، قيض الله للأمة هذه الطائفة من الأعاجم الغرباء، قاتلوا أعداءها وجاهدوهم، فأبلوا في ذلك البلاء الحسن. وإذا ما استعرضنا الوضع العسكري في ظروف قيام دولة المماليك، تبين لنا أن البلاد كانت بين مطرقة المغول شرقاً، وسندان الصليبيين غرباً؛ فنصارى أوربا برغم هزيمتهم على يد صلاح الدين، بقيت لهم في الساحل الفلسطيني حصون ومستعمرات كثيرة، مثل طرابلس وصور وحيفا وصيدا وغيرها؛ كما ظلت الحملات الصليبية تتوالى على الشام ومصر وسواحل إفريقية؛ فكانت الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ملك ألمانيا هنري السادس سنة ٥٩٤ هـ - ١١٩٧ م، والحملة الرابعة بجنودها من ألمانيا وفرنسا وإنجلترا سنة ٥٩٨ هـ - ١٢٠٢م، والحملة الخامسة بقيادة لويس التاسع وجان دي بريين ملك بيت المقدس (٦١٦ هـ - ١٢١٩م) ، والحملة السادسة بقيادة ملك صقلية فريدريك الثاني، بعد أن دعاه الملك الكامل محمد ليسلم إليه ثانية بيت المقدس، نظير أن يساعده ضد أخيه المعظم عيسى (٦٢٤ هـ - ١٢٢٧ م) ؛ ثم استرجع بيت المقدس منهم الناصر داود في ٦ جمادى الأولى سنة ٦٣٧ هـ - ١٢٤١ م، والحملة السابعة التي قادها لويس التاسع على مصر سنة ٦٤٦ هـ - ١٢٤٨م وانتهت بهزيمته وأسره، على يد القائد المملوكي بيبرس البندقداري (٤٢) . وفي أول عهد المماليك أيضاً (١٩ محرم ٦٥٦ هـ - ١٢ /٢/ ١٢٥٨م) ، دخل المغول (٤٣) بقيادة هولاكو بغداد واقتحموا أسوارها، وأحاطوا بقصر الخليفة المستنصر العباسي يرشقونه بالنبال، فلم يشعر الخليفة بسيطرتهم على مقر الخلافة إلا بعد أن أصيبت بسهم من النافذة، جاريته " عرفة " التي كانت ترقص أمامه وتضاحكه، كما ذكرذلك ابن كثير في البداية والنهاية (٤٤) . وبدلاً من أن يناصر حكام المسلمين بعضهم في هذه المحنة، أرسل سلطان دمشق الناصر بالهدايا إلى هولاكو ببغداد، والتمس منه المساعدة على استخلاص مصر من المماليك، فكان جواب هولاكو أن غزا ديار بكر وآمد، وحران والبيرة وحلب وفتحها قهراً، ثم حاصر دمشق فهرب الناصر، وسلمها أعيان الفقهاء إلى المغول، نظير وعود كاذبة لم يوف بها (٤٥) . هذا هو الوضع العسكري الذي وجد المماليك أنفسهم فيه؛ ولكنهم كانوا أهلاً لمقارعته ومغالبته. فما أن استتب الأمر للمملوك قطز (٤٦) حتى أخذ في جمع الأموال والأقوات وتجييش الجيوش والتحريض على الجهاد؛ ثم توجه لقتال المغول ببطولة نادرة، فهزمهم بعين جالوت يوم الجمعة ٢٥ رمضان ٦٥٨ هـ - ١٢٦٠م، ثم ضم عقب ذلك الشام من الفرات إلى سلطنة مصر. وواصل خلفه بيبرس بنفس الشجاعة والإقدام مقاومته المغول، وجحافل الصليبيين، وحلفائهم الأرمن والحشاشين الباطنية، فافتتح ما يقرب من ستين بلداً وحصناً. وكانت معاركه ضد الصليبيين ٢١ معركة، وضد التتار ٩ معارك، وضد الأرمن ٥ معارك، وضد الحشاشين ثلاث معارك، انتصر فيها كلها. وفي عهد خلفه قلاوون استرد حصن المرقب، وأسقطت إمارة طرابلس الصليبية. وفي عهد ابنه الأشرف فتحت عكا سنة٦٩٠ هـ، واستردت صور وحيفا وعتليت وانطرسوس وصيدا؛ وانتهى بذلك الوجود الصليبي في الشام. وفي بداية القرن الثامن الهجري (٢ رمضان ٧٠٢ هـ) ، حقق الجيش المملوكي نصراً آخر مؤزراً على المغول في مرج الصفر عند قرية شقحب قرب دمشق، فتوقف بذلك المد المغولي عند العراق وفارس. وبعد إجلاء الصليبيين عن الشام، اتخذوا من جزر قبرص وأرواد ورودس، قواعد لتوجيه العدوان على الشواطئ الإسلامية، بقيادة بطرس الأول ملك قبرص، وفرسان رودس والبندقية، في سنتي ٧٦٧ هـ، ٧٦٨ هـ؛ فتصدى لهم المماليك وردوهم. ثم عقدت بين الطرفين معاهدة صلح سنة ٧٧٢ هـ - ١٣٧٠م. وكانت أهم نتائج جهاد المماليك دحر الأعداء المتكالبين على الأمة من شرقها وغربها، وتوحيد الشام بمصر؛ وهذا بحق أعظم إنجاز تحقق في تلك العصور (٤٧) .
[الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية]
[في عهد المماليك]
جمع المماليك بين طرفي نقيض، الرق والإمارة؛ وتعايشت في نفوسهم نزعتا الشعور بالاضطهاد الذي نالهم في صباهم، والاعتزاز بالجاه الذي نالوه في كبرهم، فولَّدَ ذلك لديهم حقداً واستكباراً على الأمة التي استعبدتهم صغاراً، وخضعت لهم كباراً. واحتفظوا - نتيجة هذا الشعور - بمميزاتهم الشخصية والعرقية، ولغتهم الأجنبية ومجالسهم العائلية، فلم يختلطوا بالعامة ولم يثقوا بهم، وعاشوا حياة مزدوجة، حياة السكر والعربدة والفساد وارتكاب المنكرات، واغتصاب الأعراض والأموال في خفي أمرهم، وحرصوا على الظهور أمام العامة بمظهر حماة الدين؛ فشيدوا المساجد والمدارس وأكثروا من الأوقاف الخيرية والدينية والثقافية، وأرسلوا الهدايا والأموال وأغطية الكعبة في المحامل المهيبة إلى الحرمين الشريفين، وتزوجوا بنات الفقهاء والعلماء والقضاة. ولكن نفقات أعمال البر لديهم كانت كلها من الأموال المغتصبة، والممتلكات المصادرة، والأراضي الزراعية التي انتزعوها من أصحابها وحولوها إقطاعاً.