كما أن المظالم التي أوقعوها ببعضهم أثناء توليهم السلطة، وبأرحامهم وذرية نبيهم وصحابته، تراكمت وشكلت سلاحاً شاكياً في أيدى الأجناس الأخرى، قضى على كل ولاء لهم أو عطف عليهم أو تشوف لعودة عهودهم، لا سيما لدى الفقهاء الذين كانوا أول من أدى ضريبة سقوط الخلافة الراشدة اضطهاداً وترهيباً وتعذيباً. وقد حولهم ملوك بني أمية وبني العباس والفاطميين العرب أدوات رخيصة لإصدار الفتاوى السياسية، وتبرير الأحكام التعسفية، والتمويه على جرائم القصور، والتشريع لبيعة القصر والرضع والعتهاء والمجرمين. ويكفينا مثلاً لطريقة ترقية العلماء في هذه العصور، أن أبا يوسف (٦٢) عين في منصب قاضي القضاة بعد أن أفتى للخليفة بعدم استحقاق ولده الحد، وقد شاهده بنفسه يرتكب الفاحشة. كما أن من أوضح الشواهد على وضع العلماء الصادقين، أن الأئمة الأربعة لمذاهب أهل السنة كلهم نالهم الأذى من قبل الحكام؛ فالإمام أبو حنيفة جلد وسجن ومات في السجن كما ورد في إحدى الروايات لأنه رفض القضاء، وجلد الإمام مالك لأنه أفتى بأن طلاق المكره لايجوز، واعتقل الشافعي وكاد يقتل وفرضت عليه الإقامة الجبرية لأنه يوالي آل البيت، وجلد الإمام ابن حنبل لأنه رفض القول بخلق القرآن. هذه الأسباب - وغيرها كثير - كانت كافية لإقصاء الأسر العربية عن السلطة وحجب نصرة الفقهاء عنهم، لاسيما وهم جهاز التوجيه المعنوي والفكري والعقدي في الأمة. أما في عصر المؤلف فإن سلاطين الترك لم يكونوا محتاجين إلى شرعية فقهية، لاستغنائهم عنها بشرعية سيوفهم. ولذلك أعفي الفقهاء من هذه المهمة ونيطت بهم مهمة أخرى أكثر يسراً وأحفظ لماء وجوههم، هي الإشراف التشريعي والتطبيقي لأحكام الدين على العامة باستقلالية تكاد تكون تامة، في ميادين القضاء والحكم والفتوى والحدود والتعازير والأنكحة والمواريث والأوقاف والحسبة والتدريس والوعظ والإرشاد. وبهذا صارت السلطة مقسمة بين طائفة المماليك في شؤون السلطنة سياسة ومالاً وإقطاعاً وجيشاً وحروباً، وطائفة الفقهاء في أمر ضبط العامة وتسيير شؤونها الدينية والتعليمية. وقد نال الفقهاء نتيجة هذا الوضع من الحظوة والتكريم والمنزلة الرفيعة والتقدير الجم والاحترام التام، ما لم ينالوه من قبل أو من بعد؛ وكانوا بحق شركاء في السلطة وركائز للنظام، نصرة وولاء، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وإن ظلت فقهيات كثير منهم تتحدث عن شروط الإمامة قرشية واجتهاداً وعدالة في الميدان التعليمي المحض، وللضغط على الحكام وتليين جانبهم وتلطيف غلوائهم. ثم بعد حين ظهرت بينهم نزعة جديدة في متأخري الحنفية خاصة، تنحو نحو تجاوز هذه الشروط وتناور فقهياً لأهداف استراتيجية غايتها إخضاع الحكام لأَحكام الدين، واستدراجهم لقبول التحاكم إليه، فكانت تحفة الترك باكورة الإنتاج الفقهي في هذا الاتجاه، ممهدة الطريق لقيام أول خلافة إسلامية غير عربية، هي مملكة آل عثمان التركية ذات الشوكة والمنعة.
٢ - من الناحية الفقهية السياسية:
الجمهور على أن الإِمامة واجبة بالعقل والنقل، وخالفهم جماعة من القدرية والخوارج، كأبي بكر الأصم الذي ذهب إلى إمكان الاستغناء عنها إذا كف الناس عن التظالم، وهشام الفوطي الذي زعم أن الأمة إذا فجرت وقتلت الإمام لم يجب حينئذ على أهل الحل والعقد إقامة إمام. والبحث في موضوع الإِمامة يعتوره محظوران عند ذوي العقول كما قال إمام الحرمين - رحمه الله أحدهما: ميل كل فئة إلى التعصب وتعدي الحق، والثاني: كونه من المجتهدات المحتملات التي لا مجال للقطع فيها. والشروط المعتبرة في الإمام تتسع عند بعض الفقهاء إلى الحد الذي يجعل استجماعها في شخص واحد من قبيل المتعذر، وتتقلص عند البعض إلى حد يعتبر فيه الغاصب والفاسق عملاً ومعتقداً، والظالم والمعتدي، أهلا لانعقادها واستدامتها؛ وما ذلك إلا لأن لهم في اعتبارها شروطاً، مرجعين اثنين، أحدهما النص من صاحب الشرع، ولم يرد النص في شئ من ذلك إلا في النسب إذ قال:" الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ "، أما ما عدا ذلك فإنما أخذ بالضرورة والحاجة الماسة لينتظم أمر الإمامة. وعلى ذلك نجد شروط الإمامة عند أبي بكر الباقلاني المالكي هي: القرشية والعلم الذي يصلح معه أن يكون قاضياً، البصيرة في الحرب والسياسة، الصلابة بحيث لا تلحقه رقة في إقامة الحدود وضرب الرقاب والأبشار. أما أبو الحسن الماوردي الشافعي فشروطها عنده سبعة: العدالة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد، وسلامة الحواس، وسلامة الأعضاء، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية، والشجاعة، والقرشية. أما أبو يعلى الحنبلي فشروطها عنده: القرشية،وشروط تولية القضاء، والبصر بأمور الحرب والسياسة وإقامة الحدود، والعلم. وعند عبد القاهر البغدادي: العلم المؤدي إلى الاجتهاد، والعدالة، وأقلها قبول شهادته تحملاً وأداءً، والقرشية، والاهتداء إِلى أوجه السياسة وحسن التدبير. أما أبو حامد الغزالي فالشروط عنده عشرة: البلوغ، العقل، الحرية، الذكورية، النسب القرشي، سلامة حاستي السمع والبصر، النجدة، الكفاية، العلم، الورع. كما إن من الفقهاء من أجاز إمامة الجاهل والفاسق بالعمل أو المعتقد، وإمامة الاستيلاء والقهر والغصب انعقاداً واستدامة. وعلى رأس هؤلاء أبو يعلى الحنبلي الذي نسب هذا الرأي للإِمام أحمد بن حنبل. لكن سيرة هذا الإِمام المجاهد لا تحتمل أن ينسب إليه هذا الرأي. أما القرشية فقد اشترطها المالكية والشافعية والحنبلية والحنفية. وذهبت الخوارج إلى أن الإمامة صالحة في كل صنف من الناس، وإنما هي للصالح الذي يحسن القيام بها. وقال ضرار: إذا استوى الحال في القرشي والأعجمي، فالأعجمي أولى بها، والمولى أولى بها في الصميم، وما ذلك إلا لضعف العصبية لدى الأعجمي والمولى، مما ييسر للأمة عزله متى حاد عن الطريق المستقيم. وذهب الزيدية إلى أنها في علي رضي الله عنه، ومن خرج من ولد الحسن والحسين شاهراً سيفه وفيه شروط الإِمامة فهو الإمام. وقالت الإمامية: إنها في ولد علي وذريته إلى الإمام الثاني عشر، وفي الذي ينتظرون خروجه منهم، أي الإمام المهدي المنتظر. وإذا كان أئمة المذاهب السنية مجمعين على اشتراط القرشية فإنهم استندوا في ذلك الى حديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ " الذي أخذ به مالك والشافعي وابن حنبل، ورواية لزرقان عن أبي حنيفة؛ وإلى تطبيقات الحديث في الفترة الراشدية وعهد بني أمية وبني العباس. إلا أنهم أقروا كذلك إمامة الغصب والاستيلاء والجور. وإمامة غير القرشي للضرورة واتقاء الفتنة. والأمر كذلك بالنسبة لشرطي الاجتهاد والعدالة، ذلك أن هذه الشروط، الاجتهاد والعدالة والقرشية، تعتبر في ثلاث مراحل: عند التولية، وفي استدامة الإمامة، وعند ممارسة الإمام مهام تقليد الولاة والقضاة وغيرهم. أَما الاجتهاد مطلقاً أو مقيداً فإن بعض الحنفية يرون أنه ليس ضرورياً، ويغني الخليفة معرفة كافية بالشرع. فإذا عرضت له مسالة تقتضي الاجتهاد استعان بمجتهدي رعيته.