للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإذا ما اتجهنا إلى عصر المؤلف - الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي - لدراسة بيئته التاريخية، ألفيناه ينقسم سياسياً إلى ثلاث مناطق تختلف عن بعضها شكلاً، وتتشابه في التمزق والتآكل والانحطاط مضموناً. فهناك صدر الوطن الإسلامي أو قلبه - مصر والشام، وكان بيد المماليك الترك والشركس، البحرية ثم البرجية. وهناك الغرب الإسلامي، الأندلس التي كانت تحتضر، وأقطار المغارب - طرابلس وتونس والجزائر والمغرب - التي تموج بحروب زناتة وبني هلال (٢٩) وسليم (٣٠) ومعقل (٣١) ورياح (٣٢) وحفص وغيرهم. ثم هناك شرقاً، الأرض المحروقة بعد الغزو المغولي، ما وراء النهرين،حيث إيران والهند والسند، وأفغانستان وما إليها؟ .

[الشام ومصر]

المماليك لغة: الأرقاء، ج مملوك، وهم حكام مصر والشام في هذا العصر. وظاهرة حكم المماليك في الدولة الإسلامية من الظواهر الغريبة التي ندر حدوثها في التاريخ؛ وإن كانت الأحداث التي سبقتها قد مهدت لها طبقاً لسنن الاجتماع البشري وقواعده. ونظام الرق معروف لدى جميع الشعوب، ومنهم العرب. وكان مصدره التقليدي الأسر في الحروب، والقرصنة والاختطاف من البلاد النائية والبدائية؛ لا سيما في فترات المجاعة والكوارث الطبيعية. وعندما بعث الرسول (ص) وجد نظام الرق أحد أهم دعائم الاقتصاد في المجتمع الجاهلي، فوضع الإسلام لتصفيته تشريعات متدرجة، كفيلة بتصفيته. أغلق أولاً باب الرق مما سوى الحروب التي كانت خاضعة لقانون المعاملة بالمثل، وحرم الاسترقاق بالاختطاف والقرصنة ومختلف أساليب التعدي (٣٣) ، ثم كفل للأسرى - الرقيق الحربي - مجالاً واسعاً إنسانياً، يتمتعون فيه بحريتهم الدينية والفكرية والعلمية والإنتاجية، وحقوقهم البشرية زواجاً وطلاقاً وإنجاباً وكسباً، وهو ما لم توفره لحد الآن، أمة من الأمم للأسرى على مدار التاريخ؛ كما فتح لتحريرهم من الرق أبواباً أخرى لم تفتحها لهم أمة أبداً، عتقاً بمختلف الكفارات، وعتقاً إذا اعتدي عليهم بالضرب أو اللطم، وعتقاً بالتطوع والفداء، والمن والمكاتبة. وسار التشريع الإسلامي في هذا المجال إلى أبعد الحدود، فجعل هزل العتق جدّاً، حفاظاً على كرامة الأسرى وحماية لهم من الهزل والسخرية. ولو استمرت أحوال المسلمين طبقاً لما شرعه الإسلام في هذا المجال، لصفي الرق في وقت مبكر من تاريخ الإنسانية. لكن ملوك المسلمين استطابوا خدمات الرقيق إناثاً وذكوراً، وضربوا بتعاليم الإسلام في أمره عرض الحائط، وشجعوا استجلابه بكل الوسائل والطرق غير الشرعية وغير الإنسانية، واستخدموا العبيد والإماء في خدمات الأرض، والفلاحة والإسطبلات والبيوت، وفي الأعمال (الترفيهية) غناء ورقصاً؟. برز هذا الاتجاه في عهد المعتصم العباسي (٣٤) ، وكانت أمه تركية، حيث اعتنى باقتناء أطفال الترك واستخدامهم في حرسه وجنوده، اتقاء لخطر العرب الساخطين، والفرس الناقمين؛ وكان يجلبهم من أقاليم ما وراء النهر، من سمرقند وفرغانة والسند، وأشروسنة والشاش والقوقاز، فبلغ ما اقتناه منهم بضعة عشر ألفاً حكم بهم البلاد، ثم ما لبث هذا الجيش أن صار وبالاً على العباسيين أنفسهم. وعقب ذلك نشط سوق الرقيق لدى جميع الدويلات المنشقة عن السلطة المركزية، فاتخذه الطولونيون والإخشيديون والأيوبيون، وغيرهم في مشارق الوطن الإسلامي ومغاربه؛ ولم يقتصر امتلاكه على الملوك والسلاطين، بل شغف به قادة الجيش والأمراء والأغنياء والفقهاء، حتى صار الرق سمة رقي ورفعة ونبل؛ فاتسعت مصادره باتساع تجارته، وشملت أعالي نهر جيحون وخوارزم ونيسابور ومرو، وبلغاريا العظمى الممتدة من بحر قزوين إلى الأدرياتيكي، عبر ميناء الدربند - باب الأبواب - عاصمة أذربيجان، وجميع طرق التجارة في ذلك العصر، كما اتخذت ألمانيا وإيطاليا وفرنسا والأندلس والسلوفاك وبولونيا وروسيا والقسطنطينية طرقاً أخرى لهذه التجارة؛ ونشط اليهود - كعادتهم - في هذا المجال، خاصة يهود سكسونيا الشرقية، وأنشؤوا مراكز تجمع للرقيق، ومراكز خصاء، وأسواق نخاسة خاصة للكبار والأعيان، وأسواقاعامة لغيرهم. وكان " السادة " يتسلَّمون مماليكهم أطفالاً، ويسلمونهم في أوقات فراغهم من الخدمة إلى فقهاء يربونهم على الإسلام ويحفظونهم القرآن الكريم، ثم يلحقونهم بدورات للتدريب على الفروسية والقتال، ثم يلتحقون بالخدمة العسكرية، ويرقون فيها بالتدريج، من الإسطبلات إلى الحراسة الأمنية، إلى قيادة عشرة، إلى إمارة السرايا والجيوش، إلى الإمارة على بعض المرافق السلطانية. وشكلت فرق المماليك في عهد الفاطميين قوة هائلة كبحت جماح العناصر العربية في كل المجالات. ثم بعد تصدع دولة السلاجقة (٣٥) نجح مماليكهم " الأتابكة (٣٦) " في إقامة عدد من الدويلات، مثل أتابكية دمشق، وأتابكية الموصل وأتابكية أرمينية، وأتابكية أذربيجان؟. ثم قامت دولة نجم الدين أيوب (٣٧) في مصر، واستكثر من المماليك الأتراك، وكون منهم معظم جيشه؛ فلما مات وقتل ولده توران (٣٨) ، خلفته على سلطنة مصر سنة ٦٤٨ هـ - ١٢٥٠ م، حظيته المملوكة شجرة الدر، فتزوجت وزيرها المملوك عز الدين بن أيبك؛ وبعد أن قَتَلَتْ زوجَها ثم قُتِلَتْ عقبه، تتابع المماليك على سلطنة مصر إلى سنة ٩٢٣ هـ - ١٥١٦ م وكان منهم في عصر المؤلف - النصف الأول من القرنين الثامن الهجري، والرابع عشر الميلادي - على التتابع، ابتداء من سنة ٦٩٨ هـ - ١٢٩٩م: ركن الدين بيبرس الثاني - الناصر محمد بن قلاوون - المنصور بن الناصر - الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر - شهاب الدين بن الناصر - الصالح إسماعيل بن الناصر - شعبان الأول بن الناصر - حاجي الأول بن الناصر - الحسن بن الناصر - صلاح الدين بن الناصر - الحسن بن الناصر في ولايته الثانية التي دامت من ٧٥٥ هـ - ١٣٥٤ م، إلى سنة ٧٦٢ هـ - ١٣٦١ م، وفي عهده توفي المؤلف نجم الدين الطرسوسي سنة ٧٥٨ هـ. وكون المماليك في مصر عصبية متينة لا عهد للأمة الإسلامية بها، هي عصبية الرق، بعد أن تفتتت عصبية الدين مللاً ونحلاً، وعصبية الدم قبائل وشعوباً؛ وساعد على تقوية عصبية الرق وتمتينها عدة عوامل، أهمها الحياة القاسية التي عاشها المماليك في صغرهم؛ فقد اختطف أكثرهم وانتزعوا من أسرهم صبية، وذاقوا مرارة الغربة والشتات والرعب، وتجرعوا قسوة الخصاء والنخاسة، ومهانة الاستخدام لدى الأمراء والأغنياء، وتناقض الدين الجديد الذي لقنوه مع واقع الأسياد الذين انتحلوه، فجففت هذه المحن قلوبهم من الرحمة واللين، والوفاء والشفقة، وملأتها حقداً على غيرهم، سواء من الأسياد، أو من الشعوب العربية الخانعة لهؤلاء الأسياد. فلما استولوا على السلطة كونوا من بني (رقهم) جيشاً ضارباً قوياً، وتمسكوا بالحكم، ودافعوا عنه بشدة؛ وكان منهجهم في ذلك القتل بالشبهة، والاستئثار بالأموال والإقطاع وسائر الخيرات، وترك العامة لمصيرهم المظلم جوعاً وفاقة وجهلاً ومرضاً؛ واستعانوا بطائفة من الفقهاء في الميادين المتعلقة بشؤون العامة، قضاء وحسبة وأوقافاً ووعظاً وتدريساً، وتنفيذاً للشريعة مواريث وأنكحة وحدوداً وتعازير.

<<  <   >  >>