وقد استعانوا في ضبط مملكتهم بثلاث فئات: فئة الجيش الذي وزعت عليه أحسن الأراضي الزراعية إقطاعاً، والذي بيده العقوبات السلطانية، التي استحدثت لها أساليب للتعذيب لا تخطر على ذهن بشري سوي؛ فالتوسيط والعصر واستئصال الأعضاء جزءاً جزءاً من أهون ضروبها وأنواعها. وقد ذكر ابن تغري بردي في " النجوم الزاهرة ٩/٣٢٣ " أن الرجل كان ينعل بالحديد كما تنعل الخيل والحمير، أو يعلق بيديه وتعلق عليه الأثقال حتى تنخلع أعضاؤه ويموت. كما ذكر ابن كثير في " البداية والنهاية ١٤/٢٦٥ " أن المماليك عندما أوقعوا بقرية حوران، أمروا بقطع رؤوس القتلى وتعليقها في أعناق الأسرى، ثم ساقوهم إلى الأمير، فكان الأسير إذا أعيى قطع رأسه وعلق في عنق صاحبه، حتى إنه علق في عنق أب شيخ كبير رأس ولده الذي قطع أمام عينه. وفئة الفقهاء الذين بيدهم العقوبات الدينية، التي تطبق فقط على المستضعفين من العامة؛ وقد جعلت لهذه الفئة الرواتب المغرية، وأطلقت أيديها في أموال الأوقاف والأيتام، والصدقات والقضاء والحسبة والرشوة؛ فأصبح تعلم الفقه وعلومه وسيلة أمام أبناء المستضعفين والفقراء للخروج من الفاقة، فكثر عدد الفقهاء والمتفقهة وترفت أحوالهم ونعموا بطيب العيش. والفئة الثالثة هي طبقة الإداريين والمحاسبين الماليين؛ وكانوا ينتقون من أهل الذمة يهوداً ونصارى، ثقة في ولائهم وكفاءتهم وقدرتهم على ابتداع أساليب جلب الأموال من العامة بدون رحمة؛ وقد أطلقت أيديهم كذلك في أموال الأمة فازدادوا غنى وثراء. أما الجماهير المغلوبة على أمرها، الشعب المقهور، الخائف الجائع، الذي لا ينظر إليه بأي نظرة تميزه عن الحيوان إلا بكونه مصدراً لجمع الأموال السلطانية، فإنه أخذ يبادل الطبقة الحاكمة مماليك وفقهاء وإداريين احتقاراً باحتقار، وازدراء بازدراء، وإذ أطلق عليه حكامه لقب " الفلاحين " أطلق على السلاطين وجنودهم لقب " المماليك والجلبان والأجلاب "، وعلى الفقهاء والقضاة لقب " أهل العمامة "، لأن عمائمهم كانت أكبر من عمائم غيرهم، وكانت تتناسب في حجمها تناسباً طردياً مع رتبهم ومنزلتهم لدى الحكام، وعلى الإداريين من أهل الذمة لقب " أرباب الأقلام ". أما أساليب جمع الأموال فكانت تبدأ من المصادرة المباشرة، والعقوبات المالية التي يبيع لها الناس بناتهم في السوق، كما ذكر ابن كثير في " البداية والنهاية ١٤/٢٦٩ "، وتمر عبر ما سموه " الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية "، التي تشمل فرض دينار على كل مواطن ذكراً أو أنثى، فقيراً وغنياً، وأجرة شهر عن الأملاك والأوقاف والغيطان والسواقي، وزكاة الأموال معجلة، وثلث أموال الأجانب المقيمين، ناهيك عن عصابات المماليك والجلبان التي تجوب الأسواق للنهب والتخريب، في فترات المجاعة والكوارث الطبيعية (٤٨) . حتى الدعارة نظموها وجعلوها تحت إشراف قيمة مسؤولة عنها، أطلقوا عليها لقب "ضامنة المغاني "؛ ومن المضحك المبكي أنها هي نفسها جعلوها أيضاً مسؤولة عن الواعظات والقارئات ومحترفات النياحة في المآتم، وفرضوا على كل واحدة منهن ضريبة لخزانة السلطان؛ واتخذت للدعارة بيوت خاصة وأحياء وشوارع معينة، فكان الذي يخطئ الطريق ويمر منها يرغم على ارتكاب الفاحشة، فإن رفض فدى نفسه بمال. وكان من نتيجة هذا الوضع ازدياد نفوذ الجواري والإماء والمغنيات والداعرات في قصور السلاطين، إلى حد كنّ فيه يشاركن في أمور الدولة، ويرفعن ويخفضن، وتقدم إليهن الهدايا والرشاوى، حتى إن الأمير الحاج ملك، نائب السلطنة، كان إذا سأله أحد شيئاً قال له:" يا ولدي، رح باب الستارة، أبصر طواشي، أو توصل لبعض المغاني، تقض حاجتك "(٤٩) . أما عن الحياة الثقافية، فقد اعتورت اللغة العربية هنات وهنات، واختلطت باللغات الأعجمية السائدة، وعمت الركاكة الشعر والنثر، وإن كان المتأدبة والأدباء أكثر في هذا العصر من غيره، لأن الأدب لم يعد حرفة للتكسب بقدر ما صار نوعاً من الظرف والكياسة؛ إلا أن العلوم الدينية نفقت سوقها وكثر مريدوها، فكان هذا العصر أزهى عصورها وأكثرها علماء وفقهاء وجهابذة، من أمثال ابن كثير (٥٠) ، وابن القيم (٥١) ، والزركشي (٥٢) ومن في طبقتهم؛ وما ذلك إلا رد فعل للنكبة التي أصابت المسلمين بالغزوين الصليبي والمغولي، حيث قتل العلماء وأحرقت المكتبات، وضاعت مئات آلاف الكتب القيمة حرقاً على يد المغول، أو نقلاً إلى أوربا على يد الصليبيين؛ كما كان للمكانة العظمى التي حظي بها العلماء في السلم الاجتماعي أثر بليغ في ازدهار الثقافة الإسلامية ونضجها، باستثناء ما يتعلق بالأحكام السلطانية وسياسة الحكم، أو أبحاث الإمامة العظمى، فإنها لم تتطور، وظلت أسيرة الولاء للحاكم، وتبرير أعماله وإضفاء الشرعية على نظامه، دفعاً للفتن وتجنباً للمحظور الأكبر، بارتكاب المحظورات الصغرى كما يعبر عنه لدى بعض الفقهاء. ولعل هذا هو سبب تغاضي أنظمة العصر الحديث، عن عملية إحياء التراث الفقهي لعصر المماليك وطبعه ونشره، وعدم التعرض له بالمصادرة والمنع؛ ذلك أن تجاهل هذا التراث للقضايا السياسية إلا من زاوية الحث على طاعة أولي الأمر ولو جاروا أو فسقوا، والصحوة الإسلامية الحالية العطشى إلى الثقافة الإسلامية، مما شجع الحكام على التسامح معه، وشجع دور النشر ومحققي التراث على الإقبال عليه.
[الغرب الإسلامي]
هذا الجناح كان يشمل الأندلس والشمال الإفريقي المجزأ إلى ثلاثة مغارب: الأقصى وبه المرينيون، والأوسط - تلمسان - وبه بنو عبد الواد، والأدنى - بجاية وقسنطينة، وتونس - وبه بنو حفص.
[الأندلس]
بعد هزيمة الموحدين في موقعة العقاب (٥٣) ، ضعف شأن أمرائهم في الأندلس وصاروا إلى التنافس واستظهار بعضهم على بعض بالنصارى، فاتفق رجالات الأندلس على إخراجهم. وتولى بعدهم محمد بن هود الجذامي وآله. ثم بنو الأحمر. وتنازع بنو هود فيما بينهم، وأخذوا بدورهم يتقربون إلى النصارى ويتحالفون معهم ضد بعضهم، فضاعت بذلك ثغور كثيرة، منها قرطبة وإشبيلية. وبعد انقراض بني هود، استمر بنو الأحمر إلى آخر المائة التاسعة للهجرة، وكان أول ما قاموا به عندما استتب لهم الأمر، أن عقدوا صلحاً مع النصارى تنازلوا بمقتضاه عن جميع البسائط الأندلسية، وانحازوا إلى ساحل البحر واتخذوا من غرناطة عاصمة لمملكتهم. ثم عندما ضاق بهم الأمر استنجدوا بيعقوب المريني سنة ٦٧٣ هـ. فاجتاز إلى الأندلس وأوقع بالنصارى، وقتل قائدهم (دون نونه) ، وأرسل برأسه إلى محمد بن الأحمر تثبيتاً له وطمأنة. ولكن ابن الأحمر دبت في نفسه الظنون والمخاوف؛ فطيب رأس القائد النصراني وأكرمه، وبعث به إلى العدو، إظهاراً للولاء لهم، وخوفاً منهم، وانحرافاً عن السلطان يعقوب. ولما اجتاز يعقوب اجتيازه الثاني إلى الأندلس سنة ٦٧٦ هـ، وحاصر "جيان " وطلب صاحبها الصلح بعد أن أشرف على الهزيمة، صالحه ابن الأحمر.