زوال تلك العلة ترجع العداوة إلى ما كانت عليه؛ كالماء الذي يطال إسخانه، فإذا رفع عن النار عاد بارداً.
وقالوا: إن الأحقاد مخوفةٌ حيث كانت، وأشدها ما كان في أنفس الملوك؛ فإن الملوك يدينون بالانتقام، ويرون الطلب بالوتر مكرمةً. فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بسكون الحقد، فإنما مثله في القلب- ما لم يجد محركاً- مثل الجمر المكنون ما لم يجد حطباً. ولا يزال الحقد يتطلع إلى العلل كما تبتغي النار الحطب؛ فإذا وجد علّة استعر استعار النار، فلا يطفئه ماءٌ ولا كلامٌ ولا لينٌ ولا رفقٌ ولا خضوعٌ ولا تضرعٌ، ولا شيءٌ دون الأنفس.
وقد قيل: أحزم الملوك من لم يلتمس الأمر بالقتال، وهو يجد إلى غير القتال سبيلاً، لأن النفقة في القتال من الأنفس؛ وسائر الأشياء إنما النفقة فيها من الأموال والقول.
وقالوا: أضعف حيل الحرب اللقاء. وصرعة اللين والمكر أشد استئصالا للعدو من صرعة المكابرة. والحازم إذا نابه الأمر العظيم المفظع «١» الذي يخاف منه الجائحة المخوفة على نفسه وقومه-: لم يجزع من شدةٍ يصبر عليها، لما يرجو «٢» من حميد عاقبتها، ولم يجد لذلك مسا، ولم يشمخ بنفسه عن الخضوع لمن هو دونه، حتى يبلغ حاجته ومقصوده، وهو حامل لغب أمره، لما كان من رأيه وحسن اصطباره.
وقال الشاعر «٣» :
إذا المرء أولاك الهوانَ فأَوْلِهِ ... هَواناً، وَإِن كانت قريباً أَوَاصِرُهْ «٤»