للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأحبه، فيحبه جبرائيل، ثم ينادي جبرائيل فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ»، وَقَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ.

فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ أَنْ يَتَّقِيَ: إِمَّا الْمَخْلُوقَ، وَإِمَّا الْخَالِقَ. وَتَقْوَى الْمَخْلُوقِ ضَرَرُهَا رَاجِحٌ عَلَى نَفْعِهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَتَقْوَى اللَّهِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ للتقوى، وهو أيضا أهل المغفرة، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، لَا يَقْدِرُ مَخْلُوقٌ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ الذُّنُوبَ وَيُجِيرَ مِنْ عَذَابِهَا غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا احْتَاجَ تَقِيٌّ قَطُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (١)، فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا مِمَّا يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي التَّقْوَى خَلَلًا، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (٢)، أي فهو كافيه، لا محوجه إِلَى غَيْرِهِ.

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّوَكُّلَ يُنَافِي الِاكْتِسَابَ وَتَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ إِذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَسْبَابِ! وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ الِاكْتِسَابَ: مِنْهُ فَرْضٌ، وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، وَمِنْهُ مُبَاحٌ، وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ حَرَامٌ، كَمَا قَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْمُتَوَكِّلِينَ، يَلْبَسُ لَأْمَةَ الْحَرْبِ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لِلِاكْتِسَابِ، حَتَّى قَالَ الْكَافِرُونَ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (٣). وَلِهَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَرَى الِاكْتِسَابَ يُنَافِي التَّوَكُّلَ يُرْزَقُونَ عَلَى يَدِ مَنْ يُعْطِيهِمْ، إِمَّا صَدَقَةً، وَإِمَّا هَدِيَّةً، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَكَّاسٍ، أَوْ وَالِي شُرْطَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، لَا يَسَعُهُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ التي في


(١) سورة الطلاق الآيتان ٢، ٣.
(٢) سورة الطلاق الآية ٣.
(٣) سورة الفرقان آية ٧.

<<  <   >  >>