للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَأَدِلَّتُكُمْ هَذِهِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (١)، فأثبتم سُوءِ فَهْمِكُمْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَاحْتِجَاجُكُمْ بِهَا عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ - نَظِيرُ احْتِجَاجِ إخوانكم بها عَلَى فَنَائِهِمَا وَخَرَابِهِمَا وَمَوْتِ أَهْلِهِمَا!! فَلَمْ تُوَفَّقُوا أَنْتُمْ وَلَا إِخْوَانُكُمْ لِفَهْمِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَإِنَّمَا وُفِّقَ لِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ.

فَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَنَّ الْمُرَادَ"كُلُّ شَيْءٍ"مِمَّا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفَنَاءَ وَالْهَلَاكَ"هَالِكٌ"، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ خُلِقَتَا لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ، وَكَذَلِكَ الْعَرْشُ، فَإِنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِلَّا مُلْكَهُ. وَقِيلَ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (٢)، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَطَمِعُوا فِي الْبَقَاءِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ، فَقَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (٣)، لِأَنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَأَيْقَنَتِ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَوْفِيقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى بَقَاءِ النَّارِ أَيْضًا، عَلَى مَا يُذْكَرُ عَنْ قَرِيبٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: "لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ"-

هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَقَالَ بِبَقَاءِ الجنة وقال بفناء النَّارِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالْقَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا.

وَقَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ إِمَامُ الْمُعَطِّلَةِ، وَلَيْسَ لَهُ سَلَفٌ قَطُّ، لَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَفَّرُوهُ بِهِ، وَصَاحُوا بِهِ وَبِأَتْبَاعِهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ. وَهَذَا قَالَهُ لِأَصْلِهِ الْفَاسِدِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ، وَهُوَ امْتِنَاعُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنَ الْحَوَادِثِ! وَهُوَ عُمْدَةُ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَحُدُوثِ مَا لَمْ يَخْلُ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عُمْدَتَهُمْ فِي حُدُوثِ العالم. فرأى الجهم أن ما يمنع


(١) القصص ٨٨
(٢) الرحمن ٢٦
(٣) القصص ٨٨

<<  <   >  >>