للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَالْمُرَادِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ مُخْتَارًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ: "الْجَبْلُ"دُونَ"الْجَبْرِ"، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك لخلقين يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا؟ أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: "بَلْ خلقان جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا"فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي على خلقين يحبهما الله تعالى». وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَذِّبُ عَبْدَهُ عَلَى فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِقَابِ عَلَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ.

وَإِذَا قِيلَ: خَلْقُ الْفِعْلِ مَعَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ ظُلْمٌ! كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: خَلْقُ أَكْلِ السُّمِّ ثُمَّ حُصُولُ الْمَوْتِ بِهِ ظُلْمٌ!! فَكَمَا أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِلْمَوْتِ، فَهَذَا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا ظُلْمَ فِيهِمَا.

فَالْحَاصِلُ: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ فِعْلٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَفْعُولٌ لله، لَيْسَ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ اللَّهِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ، وَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ.

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ"- أَثْبَتَ لِلْعِبَادِ فعلا وكسبا، وأضاف الخلق إلى الله تَعَالَى. وَالْكَسْبُ: هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَعُودُ عَلَى فَاعِلِهِ مِنْهُ نَفْعٌ أَوْ ضَرَرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (١).

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ. وَهُوَ تَفْسِيرُ"لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وعكست إرادته الإرادات كلها،


(١) البقرة ٢٨٦

<<  <   >  >>