{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (١). يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَرَأَ: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَأَنَا كَتَبْتُهَا عَلَيْكَ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَة هُنَا النِّعْمَة، وَبِالسَّيِّئَة الْبَلِيَّة، فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ قِيلَ: الْحَسَنَة الطَّاعَة، وَالسَّيِّئَة الْمَعْصِيَة. [وَ] قِيلَ: الْحَسَنَة مَا أَصَابَه يَوْمَ بَدْرٍ، وَالسَّيِّئَة مَا أَصَابَه يَوْمَ أُحُدٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ شَامِلٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي لَيْسَ مُرَادًا دُونَ الْأَوَّلِ قَطْعًا، وَلَكِنْ لَا مُنَافَاة بَيْنَ أَنْ تَكُونَ سَيِّئَة الْعَمَلِ وَسَيِّئَة الْجَزَاءِ مِنْ نَفْسِه، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ مُقَدَّرٌ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَة الثَّانِيَة قَدْ تَكُونُ عُقُوبَة الْأُولَى، فَتَكُونُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْجَزَاءِ، مَعَ أَنَّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَة الثَّانِيَة قَدْ تَكُونُ مِنْ ثَوَابِ الْأُولَى، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَلَيْسَ لِلْقَدَرِيَّة أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ نَفْسِكَ}، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ فَعَلَ الْعَبْدُ - حَسَنَة كَانَ أَوْ سَيِّئَة - فَهُوَ مِنْهُ لَا مِنَ اللَّهِ! وَالْقُرْآنُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ، وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، فَجَعَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَ السَّيِّئَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي الْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و {مِنْ سَيِّئَةٍ}، مِثْلُ قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} و {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}.
وَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَبَيْنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ، فَجَعَلَ هَذِهِ مِنَ اللَّهِ، وَهَذِهِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَة مُضَافَة إِلَى اللَّهِ، إِذْ هُوَ أَحْسَنَ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْه، فَمَا مِنْ وَجْه مِنْ أَوْجُهِهَا إِلَّا وَهُوَ يَقْتَضِي الْإِضَافَة إِلَيْهِ، وَأَمَّا السَّيِّئَة، فَهُوَ إِنَّمَا يَخْلُقُهَا لِحِكْمَة، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَة مِنْ إِحْسَانِه، فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يَفْعَلُ سَيِّئَة قَطُّ، بَلْ فِعْلُه كُلُّهُ حَسَنٌ وَخَيْرٌ.
وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ في الِاسْتِفْتَاحِ: «وَالْخَيْرُ كله
(١) سورة الشُّورَى آية ٣٠
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute