للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ إِذَا كَانَ مَسْحَ ظَاهِرِ الْقَدَمِ كَانَ غَسْلُ الْجَمِيعِ كُلْفَة لَا تَدْعُو إِلَيْهَا الطِّبَاعُ، كَمَا تَدْعُو الطِّبَاعُ إِلَى طَلَبِ الرِّيَاسَة وَالْمَالِ، فَلَوْ جَازَ الطَّعْنُ فِي تَوَاتُرِ صِفَة الْوُضُوءِ، لَكَانَ فِي نَقْلِ لَفْظِ آيَةِ [الْوُضُوءِ] أَقْرَبَ إِلَى الْجَوَازِ، وَإِذَا قَالُوا: لَفْظُ الْآيَةِ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَذِبُ وَلَا الْخَطَأُ، فَثُبُوتُ التَّوَاتُرِ فِي نَقْلِ الْوُضُوءِ عَنْهُ أَوْلَى وَأَكْمَلُ، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يُخَالِفُ مَا تَوَاتَرَ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْمَسْحَ كَمَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِصَابَة - كَذَلِكَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِسَالَة، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: تَمَسَّحْتُ لِلصَّلَاة، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الْغَسْلِ، بَلِ الْمَسْحُ الَّذِي الْغَسْلُ قِسْمٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: (إِلَى الْكَعْبَيْنِ)، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى الْكِعَابِ، كَمَا قَالَ: (إِلَى الْمَرَافِقِ)، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ، كَمَا فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ وَاحِدٌ، بَلْ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ، فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْمَسْحِ إِلَى الْعَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْغَسْلُ، فَإِنَّ مَنْ يَمْسَحُ الْمَسْحَ الْخَاصَّ يَجْعَلُ الْمَسْحَ لِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَجَعْلُ الْكَعْبَيْنِ فِي الْآيَةِ غَايَة يَرُدُّ قَوْلَهُمْ. فَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، اللَّذَيْنِ هَمَّا مُجْتَمَعُ السَّاقِ وَالْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ - مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: النَّصْبُ وَالْخَفْضُ، وَتَوْجِيه إِعْرَابِهِمَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِه. وَقِرَاءَة النَّصْبِ نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، كَقَوْلِه:

فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا ...

وَلَيْسَ مَعْنَى: مَسَحْتُ بِرَأْسِي وَرِجْلِي - هُوَ مَعْنَى: مَسَحْتُ رَأْسِي وَرِجْلِي، بَلْ ذِكْرُ الْبَاءِ يُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ الْمَسْحِ، وَهُوَ إِلْصَاقُ شَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ بِالرَّأْسِ، فَتَعَيَّنَ الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ (وَأَيْدِيَكُمْ). فَالسُّنَّة الْمُتَوَاتِرَة تَقْضِي عَلَى مَا يَفْهَمُه بَعْضُ النَّاسِ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ بَيَّنَ لِلنَّاسِ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ. كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ:

<<  <   >  >>