الْمُحْرِمِ مِنَ الذُّنُوبِ الشَّدِيدَةِ، وَهُوَ انْتِهَاكٌ لِلْحُرْمَةِ، وَتَعَدٍّ لِلْحُدُودِ، وَلَوْلَا اسْتِشْعَارُ الْمُفْتِينَ نَوْعَ عُذْرٍ لِلسُّؤَالِ لَأَغْلَظُوا لَهُمْ فِي الْكَلَامِ.
وَأَيْضًا: مَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَهُوَ أَنَّ الْجِمَاعَ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَتَلَافِيهِ بِقَطْعِهِ وَإِزَالَتِهِ، فَصَارَ مِثْلَ الْإِتْلَافَاتِ؛ مِثْلَ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ رَدُّ التَّلَفِ وَلَا إِعَادَتُهُ، وَعَكْسُهُ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ نَزْعُ اللِّبَاسِ وَإِزَالَةُ الطِّيبِ إِذَا ذَكَرَ وَعَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْكَفَّارَةِ الْمَاحِيَةِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ أَنْ يَفْزَعَ إِلَى التَّلْبِيَةِ، وَهَاهُنَا الْمُجَامِعُ إِذَا ذَكَرَ بَعْدَ قَضَاءِ الْجِمَاعِ وَعَلِمَ التَّحْرِيمَ: لَمْ يُمْكِنْ مِنْهُ فِعْلٌ: فِيهِ قَطْعٌ لِمَا مَضَى وَلَا تَرْكَ لَهُ.
يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ الْمُحْرِمَ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَشْيَاءَ، فَإِذَا فَعَلَهَا نَاسِيًا فَالنِّسْيَانُ يُزِيلُ الْعُقُوبَةَ وَلَا يُزِيلُ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ الْجَابِرَةَ لِمَا فَعَلَ، وَالْمَاحِيَةَ لِلذَّنْبِ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُهُ، وَالزَّاجِرَةَ عَنْ قِلَّةِ التَّيَقُّظِ وَالْاسْتِذْكَارِ. وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً مَعَ أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْهُ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِعَوْدِ الْمُظَاهِرِ وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا. فَالْمَحْظُورُ الْمُسْتَدَامُ يُمْكِنُ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ، وَمُفَارَقَتُهُ، فَجَعَلَ هَذَا كَفَّارَةً لَهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. وَمَحْظُورٌ قَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَلَا تَرْكُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَفَّارَةٍ.
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فَمَا مَضَى مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ اللِّبَاسَ وَالطِّيبَ الْمُسْتَدَامَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا لَوْ كَفَّرَ عَنْهُ وَاسْتَدَامَهُ إِلَى آخِرِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، فَإِزَالَتُهُ إِزَالَةٌ لِنَفْسِ مَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ.
وَالْجِمَاعُ الْمُتَكَرِّرُ: أَفْعَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ كَقَتْلِ صُيُودٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ جَامَعَ: كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فَذَلِكَ الْجِمَاعُ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِدْرَاكِهِ وَرُدَّ الْبَتَّةَ؛ يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ اللَّابِسَ وَالْمُتَطَيِّبَ يَتَأَتَّى مِنْهُ امْتِثَالُ النَّهْيِ عِنْدَ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ لِمُفَارَقَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمُجَامِعِ وَالْقَاتِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِامْتِثَالُ بِالْفِعْلِ لَكِنْ بِالْعَزْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ، وَأَزَالَهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ.
قِيلَ: ذَانِكَ الْفِعْلَانِ مَبْنَاهُمَا عَلَى الِاسْتِدَامَةِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَدِمْهُمَا كَانَ أَوْلَى أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute