إنها جولة تدير الرءوس وتذهل العقول، جولة في آماد من الزمن وفي آفاق من المكان، وفي أغوار من المناظر المنظورة والمحجوبة، المعلومة والمجهولة، إنها جولة بعيدة مترامية موغلة ترسم دقائق هذا الكون في جمل قصيرة يعيا عنها الفكر البشري، ذلك أنه إذا أراد أن يتحدث عن مثل هذا العلم الشامل المحيط فإنه لا يستطيع أن يصور هذا الارتياد في مجموع هذه الآفاق فإن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود مرتبطة بقدرته البسيطة ومعارفه القليلة القلة فإنه ينتزع تصوراته من اهتماماته وهو عادة لا يهتم بإحصاء الورق الساقط من الشجر في كل أنحاء العالم وجهات الأرض، فتأتي الإشارة هنا إلى أن علم الله شامل ومحيط ومحص لكل شيء حتى الورقة التي تسقط من غصنها ... إلخ.
إن هذا المشهد والمشاهد التي بعده. الحب المخبوء في أغوار الأرض والرطب واليابس في أرجاء البسيطة لا تلحظه البشرية ولا تلم به ولكن هذا المشهد بكلياته وجزئياته منكشف تماما بجملته وأسراره لعلم الله وحده فهو جل جلاله المشرف على كل شيء المحيط بكل شيء.
الحافظ على كل شيء الذي تتعلق مشيئته وقدرته بكل شيء الصغير مثل الكبير والحقير مثل الجليل، والمخبوء مثل الظاهر والبعيد مثل القريب، والمزاولون لهذا الإحساس من بني البشر يدركون جيدا أن مثل هذا المشهد لا يخطر على القلب البشري فتدرك أن مصدر هذا الكتاب من عند علام الغيوب الذي وسع علمه كل شيء١.
١ راجع في ظلال القرآن ج٧ ص٢٤٦، ٢٥٠ راجع الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن أبو جعفر محمد بن جرير الطبري م٣١٠ ط ثانية ١٣٧٣هـ, ج٧ ص١١٠، ٢١٢، ٢١٣.