وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة، وحاشا لله ما كانوا ليفعلوا ذلك، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام, ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ، وتنزيل أعمالهم عليه تبين لك أن تلك الطريق هي التي سلك هؤلاء, وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر, فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال: أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبكم فخمسة دراهم، وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم, فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله, ولم يبين فيه الواجب من غيره١.
أقول على هامش الموضوع: ومن هنا كانت دعوة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه, ومن هنا تأثر أبو ذر بالعهد المكي, فقال بوجوب إنفاق الفائض في سبيل الله، وليس دون ذلك مؤثر أو دافع له على دعوته.
هكذا شاء الله جل شأنه أن تكون أغلب الأحكام الشرعية في هذا الطور المكي كلية عامة لتربي الجماعة الإسلامية على أبعد مدى يفهم من الحكم الكلي، ولتدخر هذه الطاقة التي دربوا عليها لمستقبل الأمة يوم نحتاج إلى ذلك.
وبهذا يسبق الإسلام جميع نظريات علم الاجتماع, والقانون البشري التي تتحدث عن السلطة في المجتمع, فلم يشاء الله تعالى أن ينزل التشريع الإسلامي مفصلا، ليختزنه المسلمون حتى يطبق مرة واحدة بمجرد النقلة