للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"ولو كانت نزعة الإيمان بالغيب، والتطلع إليه من ناحية طرفيه: الماضي والآتي، عنصرًا من عناصر الفكرة الدينية وحدها، لكان الإنكار لما وراء الحس إلحادًا فحسب، ولو كانت هي النتيجة الختامية لتقدم العلوم واتساع أفقها، لكان هذا الإنكار نقصًا في العلم وقصرًا في النظر، وكفى. أما وتلك النزعة بنت الغريزة والجبلة، فإن الأمر أعظم من ذلك وأخطر: إنه نكسة في فطرة الإنسان ترده إلى مستوى الحيوان الأعجم، ولا نقول إلى مستوى الطفولة الغافلة، فإن كثيرًا من الأطفال ذوي الفطرة السليمة لا يقنعون بالأمر الواقع المشاهد، ولا يقفون في تعليله عند حلقة من حلقات أسبابه وغاياته القريبة؛ بل يصعد دائمًا إلى أسبابه الأولى، ويسترسلون في تعريف نتائجه الأخيرة، فهذه صورة مصغرة من تلك النزعة الفكرية الإنسانية التي هي أبدًا في حركة، وتقدم يأبيان الوقوف والجمود"١.

كما أن الأمور الغيبية التي تضمنتها العقيدة لا تناقض العقل -وإن حار فيها- ولا وسيلة له لإنكارها والتكذيب بوجودها، وليس فيها شيء يضطر الإنسان إلى رفضها، والتخلي عنها بعد بلوغه أي مرحلة من مراحل الارتقاء الفكري والعلمي.

فهناك أمور لا يستطيع العقل أن يصل إليها؛ لأنها لا تقع في محيط تجربته وعمله، ولا تستطيع الأدوات التي يحصل بها المعرفة، وهي أدوات الحس، أن تصل إليها؛ لأنها خارجة عن نطاق المحسوسات، وإن كان في إمكان العقل أن يعقلها حين تبين له، فهذه تلقن للعقل تلقينا عن طريق الوحي، ويكون دور العقل أن يعلمها، لا بطريق التجربة أو الحس، ولكن عن طريق التيقن من صدق الخبر وصدق المخبر، وهو مدعو إلى القيام بعملية التيقن هذه بكل الوسائل التي يملكها ... وهي مؤدية إلى الغاية الصحيحة حين يستقيم العقل.


١ الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان د. محمد عبد الله دراز ص٩٥.

<<  <   >  >>