للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وباستقراء استعمالات العرب لكلمة الغيب ومشتقاتها، نجد أنها تقابل الشهادة وليست مقابلة للشيء الموجود أو الشيء المعقول، وقد جمع الله تعالى بين الكلمتين كثيرًا، كما في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، فكل منهما تقابل الأخرى كما أنها أيضًا ليست مقابلة للشيء الواقع كما يظن بعض الناس، حيث يكون عندهم الإيمان بالغيب إيمانًا بغير الواقع، فليس الغيب معدومًا، ولا هو الذي يحكم العقل باستحالته، أو يكون غير واقعي.

ومن هنا يتبين خطأ الذين يعتبرون الإيمان بالغيب إيمانًا بشيء غير معقول، أي مخالفًا للعقل، أو مخالفًا للواقع، أو إيمانًا بشيء معدوم، وذلك؛ لأن الغيب ليس مقابلًا للموجود في لغة العرب، ولا مقابلًا للمعقول بمعنى ما يقبله العقل، ولا مقابلًا للشيء الواقع، وإنما هو مقابل للشهادة، أي الشيء الحاضر المشهود١.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه -أي في العقل- قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقًا وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم"٢.

وقال رحمه الله: "والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس، ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس، فلهذا قال الأئمة: ليس في المنصوصات النبوية قياس، ولا تعارض بالأمثال، ولا تدرك بالعقول، وأما كونها لا تعارض الأمثال المضروة، فهذا


١ انظر: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، وعباده المرسلين للشيخ مصطفى صبري "٢/ ٧٢"، ففيه تفصيل ومناقشات حول هذه الفكرة.
٢ مجموع الفتاوى "٣/ ٣٣٩".

<<  <   >  >>