للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهذا ثنى في القرآن قصة موسى مع السحرة، وذكر ما يقوله الكفار لأنبيائهم؛ فإنه ما جاء نبي صادق قط، إلا قيل فيه: إنه ساحر أو مجنون؛ كما قال تعالى: {كَذَلكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَومٌ طَاغُون} ١، وذلك أن الرسول يأتي بما يخالف عاداتهم، ويفعل ما يرونه غير نافع، ويترك ما يرونه نافعاً. وهذا فعل المجنون؛ فإن المجنون فاسد العلم والقصد. ومن كان مبلغه من العلم إرادة الحياة الدنيا، كان عنده من ترك ذلك، وطلب ما لا يعلمه: مجنوناً. ثمّ النبيّ مع هذا يأتي بأمور خارجة عن قدرة الناس؛ من إعلام بالغيوب، وأمور خارقة لعاداتهم؛ فيقولون: هو ساحر.

الفرق بين النبي والساحر عند الفلاسفة

وهذا موجود في المنافقين الملحدين المتظاهرين بالإسلام؛ من الفلاسفة ونحوهم؛ يقولون: إن ما أخبرت به الأنبياء من الغيوب، والجنة، والنار، هو من جنس قول المجانين٢، وعندهم خوارقهم من جنس


١ سورة الذاريات، الآيتان ٥٢-٥٣.
٢ وقال شيخ الإسلام رحمه الله عنهم في موضع آخر: "وهؤلاء القوم قد يقولون: إن الأنبياء أخبروا الناس بما هو كذب في نفس الأمر لأجل مصلحتهم. وقد يحسنون العبارة، فيقولون: لم يخبروا بالحقائق، بل ذكروا من التمثيل والتخييل في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما تنفع به العامة. وأما الحقيقة فلم يخبروا بها، ولا يمكن إخبار العامة بها. وهذا مما يعلم بالضرورة بطلانه من دين المرسلين". الصفدية ١٢٠٢. وانظر درء تعارض العقل والنقل ١٨-٩. وانظر ما يُشبه كلام هؤلاء في: رسالة أضحوية في أمر المعاد لابن سينا ص ٤٤-٥١.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً عن الفلاسفة المنتسبين للإسلام: "وصار ابن سينا، وابن رشد الحفيد، وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء، ويظهرون أصولاً لا تخالف الشرائع النبوية. وهم في الباطن يقولون: إن ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له في نفس الأمر، وإنما هو تخييل وتمثيل، وأمثال مضروبة لتفهيم العامة ما ينتفعون به في ذلك بزعمهم، وإن كان مخالفاً للحق في نفس الأمر. وقد يجعلون خاصة النبوة هي التخييل، ويزعمون أن العقل دلّ على صحة أصولهم". الصفدية ١٢٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>