للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والذين يُخالفون الأنبياء؛ من أهل الكفر، وأهل البدع؛ كالسحرة، والكهان، وسائر أنواع الكفّار؛ وكالمُبتدعين من أهل الملل؛ أهل العلم، وأهل العبادة: فهؤلاء مخالفون للأدلة السمعية والعقلية؛ للسماعية والعيانية، مخالفون لصريح المعقول، وصحيح المنقول؛ كما أخبر الله عنهم بقوله: {كُلَّما أُلْقِيَ فيها فَوْجٌ سألهم خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} الآية١. فهؤلاء يُخالفون أقوال الأنبياء؛ إما بالتكذيب، وإما بالتحريف من التأويل، وإما بالإعراض عنها وكتمانها؛ فإما لا يذكروها، أو يذكروا ألفاظها، ويقولون: ليس لها معنى يعرفه مخلوق٢؛ كما أخبر الله عن أهل الكتاب: أنّ منهم


١ سورة الملك، الآية ٨.
٢ يُنبّه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ها هنا على أنّ لأهل التعطيل في نصوص الوحي ثلاث طرق:
الطريق الأول: إما بردّها بالتكذيب بها، والتعطيل لها لفظاً ومعنى.
الطريق الثاني: أو صرفها عن معناها الحقيقي، ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم بها، بواسطة التأويل.
الطريق الثالث: وهو التفويض المحض؛ أو قل دعوى الجهل بمعنى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم العلم به، والفقه له.
أما أصحاب القول الأول؛ وهو التكذيب بالنصوص، فقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله: (يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء.
وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته وأنه مستو على عرشه.
ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقاً، بناء على أن الدلالة القطعية لا تفيد اليقين بما زعموا.
ويزعم قوم من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع باليقين". المعجزات وكرامات الأولياء ص ٥٦-٥٧.
وأما التأويل: فقد أوضح الشيخ رحمه الله أن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في معان ثلاثة:
أحدها: العاقبة، وما يؤول إليه الكلام. الثاني: يراد به التفسير. الثالث: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وتسمية هذا تأويلاً لم يكن موجوداً في عرف السلف رحمهم الله، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفةٌ من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام؛ فإن أكثره أو عامته من باب تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية. وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشهب.
انظر: نقض المنطق ص ٥٧-٥٨. والعقيدة التدمرية ص ٩١-٩٣.
وأما أهل التفويض المحض؛ وهو تفويض علم معاني النصوص إلى الله تعالى، والإعراض عنها بالكلية، والزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المراد، ولم يبلغ البلاغ المبين، فقد قال عنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وأما التفويض فإنه من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضّنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟.. فعلى قول هؤلاء: يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون. وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه. وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة، والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة. ومعلومٌ أن هذا قدحٌ في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزّل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله. ومع هذا فأشرف ما فيه؛ وهو ما أخبر به الربّ عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمراً ونهياً، ووعداً وتوعداً، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر، لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين. وعلى هذا التقدير: فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يُناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يُستدلّ به. فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يُبينوا مرادهم. فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد". درء تعارض العقل والنقل ١٢٠١-٢٠٥.
وقال رحمه الله تعالى أيضاً عن أهل هذه الطرق: "الخارجين عن طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، لهم في كلام الرسول ثلاث طرق: طريقة التخييل، وطريقة التأويل، وطريقة التجهيل. فأهل التخييل: هم الفلاسفة الباطنية الذين يقولون: إنه خيّل أشياء لا حقيقة لها في الباطن، وخاصية النبوة عندهم التخييل. وطريقة التأويل طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون: إن ما قاله له تأويلات تخالف ما دل عليه اللفظ، وما يفهم منه، وهو وإن كان لم يبين مراده ولا بين الحق الذي يجب اعتقاده، فكان مقصوده أن هذا يكون سبباً للبحث بالعقل، حتى يعلم الناس الحق بعقولهم، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يُوافق قولهم ليُثابوا على ذلك. فلم يكن قصده لهم البيان والهداية والإرشاد والتعليم، بل قصده التعمية والتلبيس، ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق بعقلهم، ويعرفوا حينئذ أن كلامه لم يقصد به البيان، فيجعلون حالهم في العلم مع عدمه خيراً من حالهم مع وجوده...... - إلى أن قال رحمه الله: - وأما الصنف الثالث الذين يقولون إنهم أتباع السلف، فيقولون: إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك، بل لازم قولهم أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات، بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه. والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون: إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص، بل يقولون ذلك في الرسول. وهذا القول من أبطل الأقوال". نقض المنطق ص ٥٦-٥٧.
وانظر أقوالاً أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله حول هذه الطرق في كتبه: مجموع الفتاوى ٤٦٨-٦٩، ١٣١٧٥-١٧٦، ٢٨٨-٢٨٩. ودرء تعارض العقل والنقل ١١٤، ٥٢٨٤-٢٨٥. ونقض التأسيس ٢٢٣٤-٢٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>