للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للفاعل؛ وهو الذي يلتذ به، والقبيح يُنافيه؛ وهو الذي يُتألّم به. والحسن، والقبح في أفعال العباد بهذا الاعتبار متفق على جوازه. وإنّما النزاع في كونه يتعلّق به المدح والثواب. وهذا في الحقيقة يرجع إلى الألم واللذة.

فلهذا سلّم الرازي في آخر عمره ما ذكره في كتاب١ [أقسام اللذّات] ٢ إنّ الحسن والقبح العقليّين [ثابتان] ٣ في أفعال العباد دون الرب٤،


١ كتاب أقسام اللذات؛ كما صرّح به شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتبه. انظر على سبيل المثال: جامع الرسائل ٢٢٥٠-٢٥١. وبيان تلبيس الجهمية ١١٢٧، وكذلك هذا الكتاب النبوات، كما سبق ص ٤٧٨؛ حيث صرح بذكر هذا الاسم.
وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم رحمه الله ص ٣٠٤-٣٠٥؛ إذ أورد نماذج من هذا الكتاب، تبيَّن من خلالها تسليم الرازي، وحيرته في آخر عمره.
وشيخ الإسلام نقل هذا أيضاً. يقول رحمه الله: "ومن الناس من أثبت قسماً ثالثاً للحسن والقبح، وادّعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال، أو صفة نقص. وهذا القسم لم يذكره عامّة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين؛ كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة. والتحقيق: أنّ هذا القسم لا يُخالف الأول؛ فإنّ الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال، هو يعود إلى الموافقة والمخالفة؛ فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألّم بالنقص، فيعود الكمال والنقص إلى الملائم والمنافي". مجموعة الرسائل الكبرى ٢١٠٤.
٢ بياض بمقدار ثلاث كلمات في جميع النسخ. ولعلّ ما أثبتّ هو المقصود؛ لأنّه ألّفه في آخر حياته.
٣ في ((خ)) رسمت هكذا: ياتيان.
٤ قال شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف الحسن والقبح، وعلاقتهما بالحكمة والقدر، وكيف وقع الاشتباه والاختلاف في ذلك: "إنّ الحسن هو: الحق، والصدق، والنافع، والمصلحة، والحكمة، والصواب. وإنّ الشيء القبيح هو: الباطل، والكذب، والضارّ، والمفسدة، والسفه، والخطأ".
ثم ذكر رحمه الله قول القدرية، والجبرية في أفعال العباد، وارتباط ذلك بالحسن، والقبح؛ فقال: "والمعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أنّ الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وأنّ الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعويض بنفع لاحق. وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون: بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضارّ والمنافع، والخير والشرّ بالنسبة إليه. ويقول هؤلاء: إنّه لا يُتصوّر أن يفعل ظلماً، ولا سفهاً أصلاً. بل لو فرض أنّه فعل أي شيء، كان فعله حكمة وعدلاً وحسناً، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه، وهو لم ينه أحداً. ويُسوّون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين. والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد، ولا يتضرّر بمعصيتهم. لكنِ الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته، وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة. والآخرون يقولون: ما حسن منّا حسن منه، وما قبح منا قبح منه.....". وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله النفس في توضيح موقف المعتزلة والأشاعرة من الحسن والقبح. انظر: قاعدة في المعجزات والكرامات ص ٥٣.
وأما التحسين والتقبيح عند أهل السنة والجماعة، فقد فصّل فيه شيخ الإسلام القول. وممّا قاله: "..وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع، ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة، أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك؛ كما يُعلم أنّ العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم. فهذا النوع هو حسن وقبيح. وقد يُعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنّه أثبت للفعل صفة لم تكن. لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك. وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنّهم قالوا: إنّ العباد يُعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولاً. وهذا خلاف النصّ؛ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ....
النوع الثاني: إنّ الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به؛ كما أُمر إبراهيم بذبح ابنه، فلمّا أسلما وتلّه للجبين حصل المقصود، ففداه بالذبح. وكذلك حديث أبرص، وأقرع، وأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة؟ فلمّا أجاب الأعمى، قال المَلَك: أمسك عليك مالك، فإنّما ابتُليتم، فرضي عنك، وسخط على صاحبيك. فالحكمة منشؤها من نفس الأمر، لا من نفس المأمور به. وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أنّ الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع. والأشعريّة ادّعوا أنّ جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأنّ الأفعال ليست لها صفة، لا قبل الشرع، ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور، فأثبتوا الأقسام الثلاثة. وهو الصواب". مجموع الفتاوى ٨٤٣٤-٤٣٦. وانظر: المصدر نفسه ١٦٤٩٨. ومجموعة الرسائل والمسائل ٤٢٩٢. ومنهاج السنة النبوية ١٣١٦، ٢٢٩٤-٣٠٢، ٣١٧٧. ودرء تعارض العقل والنقل ٨٢٢، ٤٩٢، ٩٤٩-٦٢. وقاعدة في المعجزات والكرامات ص ٥٣-٥٤. والرد على المنطقيين ص ٤٢٠-٤٣٧. ومجموعة الرسائل الكبرى ٢١٠٣-١٠٥. وشرح الأصفهانية ٢٣٤٢، ٣٩٣، ٦١٧.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله عن موقف الناس من التحسين والتقبيح: "وقد تنازع الناس في حسن الأفعال وقبحها؛ كحسن العدل والتوحيد والصدق، وقبح الظلم والشرك والكذب: هل يُعلم بالعقل، أم لا يُعلم إلا بالسمع. وإذا قيل: إنّه يُعلم بالعقل، فهل يُعاقب من فعل ذلك قبل أن يأتيه رسول؟ على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم؛ وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم ... ". الجواب الصحيح ٢٣٠٧-٣٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>