للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا تقول: "بالغُدْوَةِ والعَشِيّ" إلا في قراءة شاذة١، فإذا كان ذلك كذلك فما بالهم صرفوها مع لَدُن البتة، وأجمعوا على ترك الصرف الذي هو الشائع من أمرها مع غير لَدُن؟

فالجواب عندي أنهم إنما أجمعوا على صرفها لأمرين:

أحدهما: كثرة الاستعمال، لأنهم لما كثر استعمالهم إياه أشد تغييرًا.

والآخر: أنهم لو لم يصرفوها لقالوا: لَدُن غُدْوة، فتفتح الهاء، فلا يعلم أمنصوبة هي أم مجرورة، ألا ترى أن ما لا ينصرف نصبه وجره بلفظ واحد، نحو: رأيت عمرَ، ومررت بعمرَ، فلما اعتزموا نصب غدوة بعد لدن وإخراجها لكثرة الاستعمال عن حال نظائرها صرفوها ليكون ظهور التنوين مع الفتحة يحقق ما نووه واعتقدوه من النصب، ويزيل الشبهة عن المسامع، فلا يظن أنها مجرورة غير منصوبة.

فإن قلت: فمن رفع فقال: لَدُن غُدْوةٌ، أو جر، فقال: لَدُن غُدْوةٍ، ما الذي دعاه إلى الصرف؟ ولو لم يصرف فقال: لَدُن غُدْوةُ، ولَدُن غُدْوةَ لعلم أنه قد جرَّ تارةً، ورفع أخرى؟

فالجواب: أنهم لما أوجبوا صرفها وهي منصوبة، وهو الأكثر من أحوالها، حملوا المرفوعة والمجرورة لقلة الرفع فيها والجر على النصب الذي قد شاع وكثر، كما حملوا أَعِدُ ونَعِدُ وتَعِدُ على يَعِدُ، هذا مع ما قدمناه من تغييرهم لما كثر استعماله عن حال نظائره.

فإن قلت: وكيف يجوز لك أن تحمل الرفع على النصب وأنت تعلم أن الرفع في كل الأحوال أسبق في المرتبة من النصب؟ أفيحسن أن يحمل الأصل على الفرع؟ وما الفرق بينك وبين الفراء في حمله فتحة فَعَلَ الذي هو للواحد على فتحة فَعَلَا الذي هو للتثنية؟

فالجواب: أن الرفع بعد لدن في قول من قال: لَدُن غُدْوةٌ، إنما هو في الحقيقة فرع ههنا ودخيل على النصب، وإن كان في غير هذا الموضع متقدمًا في الرتبة للنصب والجر، وذلك أن قولنا: لَدُن غُدْوةٌ إنما هو ظرف وفضلة تتبع الجملة أبدًا، فهو من


١ هذه قراءة سبعية فقد قرأ ابن عامر "بالغدوة" في كل القرآن بالواو. السبعة "ص٢٥٨".

<<  <  ج: ص:  >  >>