فبمعرفة ذلك يعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين.
وقد عقد لكل أصل من هذه الأصول الثلاثة فصلاً وأطنب الكلام فيه، فمما قال في الفصل الأول:"اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منه يدل على التحرز والتحصن والالتجاء، وحقيقة معنى هذه الكلمة: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه.
ولهذا يسمى المستعاذ به معاذاً كما يسمى ملجأ ووزراً، وفي الحديث: أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها قالت: أعوذ بالله منك، قال: "لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك"١.
فمعنى أعوذ: ألتجىء وأعتصم وأتحرز.
ثم ذكر في أصله قولين، وقال- بعد أن ذكرهما- والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معاً، فإن المستعيذ مستتر بمعاذ مستمسك به معتصم به، قد استمسك قلبه به ولزمه كما يلزم الولد أباه إذا شهر عدوه سيفاً وقصده به فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه وفر إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه، وبعد فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من اللجاء والاعتصام والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة.
ونظير هذا؛ التعبير عن محبته وخشيته وإجلاله ومهابته، فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، فلا يدرك إلا بالاتصاف بذلك لا بمجرد الصفة والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنين لم تخلق له شهوته أصلاً فلو قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه، فإذا وصفتها لمن خلقت فيه