وقد عرض في هذه الأبيات الأخيرة بنقيب بغداد، فإنه عدو لأهل الكمالات والأمجاد، وكان رحمه الله له مشاركة في كثير من العلوم، واشتغل مدة مديدة في المنطوق منها والمفهوم، وله محبة ومزيد ميل إلى آثار السلف، ولم يزل يسخف رأي الغلاة الذين هم بئس الخلف، ولم يبلغ من العمر إلا نحو خمس وأربعين سنة إلا واخترمته المنية، ووجد عليه والده أعظم وجد حتى لحقه بعد مدة جزئية، وقد كنت كتبت له أعزيه بهذه الفاجعة المؤلمة، وهذه الحادثة الملمة، فأجابني بقوله:
بالله المستعان وعليه التكلان، وبه أستعين، وهو في كل شدة نعم المعين، لا ملجأ إلا إليه، ولا معول إلا عليه، وله الحمد على كل حال، وإليه المرجع والمآل، لقد صرت للحوادث غرضاً منصوباً، وللنوائب جملاً ركوباً، تتنصل فيَّ ماضيات نصالها، وتحمل عليَّ مثقلات أحمالها، فلله قلبي ما أصبره وأقساه، وجسمي ما أصلبه وأقواه، فلو كان قلبي حديداً لذاب، أو كان وجودي صخراً لتصدع من عظم المصاب، ولعمري لقد فل المنون شباتي، وأفسد علي حياتي، وثكلني لذاتي، فما هو إلا قمص الصبر أتدرعها، وغصص الموت أتجرعها، وتأبى زفرات الحزن إلا تصعدا، وجمرات الوجد إلا توقداً، ولكن ما الحيلة وقد حل البلاء، وفرض العزاء، وكتب الرضاء والتسليم، عند حلول الأمر الجسيم، فلا تسخط لقدر الله وهو عدل، ولا تكره لقضائه وهو فصل، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، تسليماً لما أمضاه، ورضى بما قضاه، ولقد تشرفت بكتابكم الشريف، فتناولته بكف التكريم، وأنامل التبجيل والتعظيم، وفضضته من خط تسكب منه العبرات، ولفظ تتجاذب من خلاله الحسرات يشهد بمشاركة مولاي أطال الله تعالى بقاءه في هذه المصيبة مشاركة من لا يتميز عنه في محنه ولا منحه وسروره وحزنه،