وقد اعترف له بطول الباع في العلوم الشرعية وغيرها الموافق والمخالف، ولا ينكر ذلك إلا غبي أو جاهل أو حسود أو متعصب على حجر جمود واقف، وقد أثنى عليه جمهور معاصريه، وجمهور من تأخر عنه، وكانوا خير مناصريه، وهم ثقات صيارفة حفّاظ، عريفهم في النقد دونه عريف عكاظ، وطعن فيه بعض معاصريه بسبب أمور أشاعها مشيع لحظ نفسه، أو لأجل المعاصرة التي لا ينجو من سمها إلا من قد كمل في قدسه، فخلف من بعدهم مقلدهم في الطعن فتجاوز فيه الحد، ورماه بعظائم موجبة للتعزير أو الحد، ولو قال هذا المقلد كقول بعض السلف حين سئل عما جرى بين الإمام علي ومعاوية فقالوا: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا أفلا نطهر منها ألسنتنا لنجا من هذا العناء، وقول الآخر لما سئل عن ذلك فأجاب {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ١.
وهذا الإمام تصانيفه قد ملأت طباق الثرى، واطلع عليها القاصي والداني من علماء الورى، فما وجدوا فيها عقيدة زائغة، ولا عن الحق زائغة، وكم سل السيوف الصوارم على فرق الضلال، وكم رماهم بصواعق محرقة كالجبال، تنادي صحائفه البيضاء بعقيدة السلف، ولا ينكر صحتها وأفضليتها من خلف منا ومن سلف، شهد له الأقران بالاجتهاد، ومن منعه له فقد خرط بكفه شوك القتاد، وما سوى العقائد نسبت إليه مسائل جزئية رأى فيها باجتهاده رأي بعض السلف، لدليل واضح قام عنده، فكيف يحل الطعن فيه بسهام الهدف، وهذا محمد بن إسحاق قال فيه إمام دار الهجرة: ذاك دجال من الدجاجلة، ومع ذلك وثقه تلميذه الإمام المجتهد محمد بن إدريس، وروى عنه حديث القلتين، ووصفه بالدجاجلة لم يبق من الذم شيئاً، ولم يرمه أحد بكفر ولا زندقة ولا فسق، وأمثال هذه القضية جرت في الأعصر الأول وبعدها مراراً، وأشنع ما نسب إليه منع الزيارة لقبور الأنبياء، فهذه إن صحت عنه فلعله إنما منع شد الرحال إليها قصداً، وأما الزيارة لتلك القبور المقدسة تبعاً فلا يصح نسبة المنع إليه، كيف وهو مصرح باستحباب زيارة