للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو عابد، بل كان لباسه وهيئته كغالب الناس ومتوسطيهم، ولم يكن يلبس نوعاً واحداً من اللباس، بل يلبس ما اتفق وحصل، ويأكل ما حضر، وكانت بذاذة الإيمان عليه ظاهرة، لا يرى متصنعاً في عمامة ولا لباس، ولا مشية ولا قيام، ولا جلوس، ولم يسمع أنه أمر أن يتخذ له ثوب بعينه، بل كان أهله يأتون بلباسه وقت حاجته لبدل ثيابه التي عليه، وربما اتسخت ولا يأمر بغسلها حتى يسأله أهله ذلك، وكذا كان في المأكل، فما سمع أنه طلب طعاماً قط ولا عشاء ولا غذاء ولو بقي مهما بقي لشدة اشتغاله بما هو فيه من العلم والعمل، بل كان ربما يؤتى بالطعام وربما يترك عنده فيبقى زماناً حتى يلتفت إليه، وإذا أكل يأكل شيئاً يسيراً، وما ذكر من ملاذ الدنيا ونعيمها، ولا كان يخوض في شيء من حديثها ولا يسأل عن شيء من معيشتها، بل جل همه وحديثه في طلب الآخرة وما يقرب إلى الله تعالى.

وأما تواضعه؛ فما سمع بأحد من أهل عصره مثله رحمه الله في ذلك، فكان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والفقير، ويدنيه ويكرمه ويباسطه بحديث زيادة عن الغنى، حتى أنه ربما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبراً قلبه، وكان لا يسأم ممن يستعبه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه ولين عريكة، ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه، ولا يجبهه ولا يتفوه بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط، وكان يلزم التواضع في حضوره مع الناس ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده ومشيه ومجلسه وغيره.

وأما كرماته وفراسته، فقال الشيخ الحافظ أبو حفص عمر: جرى بيني وبين بعض الفضلاء منازعة في عدة مسائل وطال كلامنا فيها، وجعلنا الشيخ المرجع، فلما حضر هممنا بسؤاله عنها فسبقنا هو وشرع يذكر لنا مسألة عما كنا فيه، ويذكر أقواد العلماء فيها ثم يرجح منها ما رجحه الدليل، حتى أتى على آخر ما أردنا، فبقينا ومن حضرنا مبهوتين متعجبين، وكنت في صحبتي له إذا خطر لي بحث يشرع يورده ويذكر الجواب عنه من عدّة وجوه.

<<  <  ج: ص:  >  >>