للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فدلت هذه الأحاديث على أن خيار الخلق عند الله خيارهم للناس، وأن أفضلهم عند الله أنفعهم لخلقه. وهذا من أقوى ما ورد في الدلالة على هذا الباب ومن أظهر ما ذكر في تفضيل الأعمال المتعدية على الأعمال القاصرة في الدين، والله أعلم بها.

ومما جاء عن النبي أيضاً في تفضيل الأعمال المتعدية، وخدمة الناس على العبادة القاصرة على العبد، ما أخرجه الشيخان من حديث أنس قال: كنا مع النبي أكثرنا ظلا الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب، وامتهنوا، وعالجوا. فقال النبي : «ذهب المفطرون اليوم بالأجر». (١)

وهذا من الأدلة الظاهرة الجلية، في تقديم خدمة الناس، ونفعهم، على العبادات القاصرة.

ومما تتقرر به هذه المسألة أفعال السلف، المتضمنة تقديمهم الأعمال المتعدية، على العبادات اللازمة، وسعيهم في خدمة الناس ونفعهم.

قال مجاهد: «صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني (٢).

وعن مصعب بن أحمد بن مصعب أنه صحب أبا محمد المروزي في الحج، وكان قد اشترط عليه ألا يخالفه قال: «فخرجت معه وكان إذا حضر الطعام يؤثرني، فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشرط عليك أن لا تخالفني، فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يُلحق نفسه من الضرر، فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد، ونحن نسير، فقال يا أبا أحمد اطلب الميل (٣)، ثم قال لي: اقعد في


(١) صحيح البخاري مع الفتح (٦/ ٨٤) ح: (٢٨٩٠)، وصحيح مسلم (٢/ ٧٨٨) ح: (١١١٩).
(٢) ذكره ابن رجب في لطائف المعارف ص: (٤١٣).
(٣) الميل: قدر مد البصر، ويطلق على الأعلام المبنية في طريق مكة، لأنها بنيت على مقادير مد البصر من الميل إلى الميل، انظر لسان العرب (١١/ ٦٣٩).

<<  <   >  >>