للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوعظ، وتوبة التائبين، ورؤية الزاهدين إلى الزهد والإنقطاع عن الخلق، والإنفراد بالآخرة، فتأملت ذلك فوجدت عمومه من الشيطان، فإن الشيطان يرى أنه لا يخلو لي مجلس من خلق لا يحصون يبكون ويندبون على ذنوبهم، ويقوم في الغالب جماعة يتوبون ويقطعون شعور الصبا، وربما اتفق خمسون ومائة، ولقد تاب عندي في بعض الأيام أكثر من مائة، وعمومهم صبيان قد نشأوا على اللعب، والانهماك في المعاصي، فكان الشيطان لبحر غوره في الشر رآني أجتذب إلي من أجتذب، منه فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه؛ ليخلو هو بمن أجتذبهم من يده، ولقد حسن إليَّ الإنقطاع عن المجالس … ». (١)

إلى أن قال: «وأما الانقطاع فينبغي أن تكون العزلة عن الشر لا عن الخير، والعزلة عن الشر واجبة على كل حال، وأما تعليم الطالبين، وهداية المريدين فإنها عبادة العالم، وإن من بعض العلماء إيثاره التنفل بالصلاة، والصوم، عن تصنيف كتاب أو تعليم علم ينفع لأن ذلك بذر يكثر ربعة ويمتد زمان نفعه … فلعيك بالنظر في الشَّرْب (٢) الأول، فكن مع الشَّرْب المقدم، وهم الرسول وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.

فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جملة المتزهدين، والمتصوفة من الانقطاع عن العلم والانفراد عن الخلق؟ وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر؟». (٣)

فتأمل كيف نبه هذا هذا العالم المتفقه، على خطورة الانصراف إلى العبادة وترك تعليم الناس، ووعظهم، مما يتعدى نفعه للناس، وأن ذلك من تلبيس الشيطان وكيده ثم تقريره لهذه المسألة بما أستدل له من سيرة الرسول وأصحابه في


(١) صيد الخاطر (ص: ٨٢).
(٢) الشَّرْب: مصدر شَرِبَ، ويطلق على الفهم، ويقال ما زال بني فلان على شَربة واحدة، أي على أمر واحد. انظر لسان العرب: (١/ ٤٨٧، ٤٩٣)، والمقصود هنا لزوم ما كان عليه السلف.
(٣) صيد الخاطر (ص: ٨٣٨٤).

<<  <   >  >>