بلد صاحب خير يكتب بجميع مَا يقع إِلَى الخليفة مع البريد شيئاً فشيئاً، فبينا هارون فِي مجلسه إذ جلس معه رجل فقال لَهُ: مَا حاجتك؟ قال: إن زكريَّاء بن سعد صاحب البريد أمرني أن أجلس معك. فقال: هَذَا مجلس أمير المؤمنين لا يجلس فِيهِ أحد إِلاَّ بإذنه! فركب زكرياء إِلَى أمير مصر فذكر لَهُ ذَلِكَ فحضر هارون فِي الحال، فوجد عند الأمير إسحاق بن إبراهيم بن تميم وأحمد بن محمد بن أسباط. فقال أحمد لهارون: أشهد عَلَيْكَ بما قلت. فقال: من يكون هَذَا؟ فقال لَهُ كاتبه: هَذَا أحمد بن محمد بن أسباط. فقال له هارون: لعلك يا كلب تتكلم. والله لقد هممت أن لا أقوم من مجلسي هَذَا حَتَّى يُضرب ظهرك لِما صحّ عندي من سوء سيرتك. فقال الأمير لأحمد - وخشي عَلَيْهِ من زيادة هارون -: انصرف من هنا.
وكتبوا إِلَى المأمون بالقصة فجاء - جوابه: إن أحبّ هارون أن يجلس معه أحد وإلاّ فَلاَ. فقال هارون لما بلغه ذَلِكَ: أما إِذْ رَدَّ إليّ أمير المؤمنين الأمر فليجلس من شاء.
قال أبو عمر الكندي: وَلَمْ يزل أمر هارون مستقيماً حَتَّى وقعت المحنة، فكتب أبو إسحاق - وأمْرُ مصر يومئذ إِلَيْهِ -: مِن أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين الرشيد أخي أمير المؤمنين إِلَى نصر بن عبد الله، فذكر الكتاب وفيه أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إِلَى قضاة عمَلي بامتحان الشهود. فمن أقرّ منهم بأن القرآن مخلوق استمر، ومن أبَى ذَلِكَ اعتزل عن الحكم. وأن يمنع أهل الحديث والفقه من الجلوس للناس إِلاَّ من انتحل منهم هَذِهِ النِّحلة. فذكر بقية الكتاب وهو مؤرخ بعشر بقين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة ومائتين، فأحضر الأمير يومئذ وهو نصر بن عبد الله المعروف بكَيْدَر مولى أمير المؤمنين القاضي هارون بن عبد الله وامتحنه بما فِي الكتاب، فأجابه إِلَى ذَلِكَ، وَوَافَقَه عَلَيْهِ وتابعَه عامة الشهود وأكثر الفقهاء إِلاَّ من هرب منهم ومن أهل الحديث. واستمر هارون يمتحن مَن يشهد عنده، فإن أقرّ بذلك قَبِله، وإن امتنع وقفت شهادته.
قال أبو عمر الكندي: حدثني محمد بن محمد بن أبي الحديد، حدثني عنه عُتبة