فالأحكام التكليفية خمسة استوعبها المؤلف فذكرها كلها، الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه، وطريق الحصر في الخمسة الاستقراء؛ لأن الطلب إما أن يكون طلباً للفعل أو الكف عنه أو للتخيير، فالأول إن كان جازماً على ما تقدم فهو الواجب، وإن كان من غير جزمٍ فهو المندوب، والثاني طلب الكف، إن كان مع جزمٍ فهو المحظور، وإن كان من غير جزم فهو المندوب، وإن كان الثالث الذي هو التخيير هو الإباحة، فالإباحة حكم شرعي؛ لأنها بخطابٍ من الله -عز وجل- على خلافٍ بين أهل العلم في ذلك، منهم من يقول: إن ذكر الإباحة وإدراجها ضمن الأحكام من باب تتميم القسمة؛ إذ ليست هي حكم، وليست بتكليف، وليس فيها كلفة ولا مشقّة، والذي يقول: إنها من التكليف وأدرجها في الأحكام التكليفية قال: إنها جاءت بخطابٍ من الله، وخطاب الله هو الحكم،
والأحكام الوضعية، والمراد بالحكم الوضعي: خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين لا بالاقتضاء ولا بالتخيير، والأحكام الوضعية كثيرة: السبب، والعلة، والشرط، والمانع، والرخصة، والعزيمة، والصحة، والفساد، وأما المؤلف فاقتصر منها على اثنين، وساقها مساقاً واحداً مع أحكام التكليف اختصاراً؛ لأن الكتاب ألف للمبتدئين، وهم لا يستوعبون ذكر جميع الأقسام.
وأنتم تلاحظون أن الكتب التي تؤلف بالتدريج -ولنأخذ على سبيل المثال مؤلفات الموفق ابن قدامة في الفقه- العمدة، المقنع، الكافي، المغني، فللمبتدئين العمدة، وللطبقة الذين يلونهم من المتوسطين المقنع، وللطبقة الثالثة الكافي، وللمنتهين المغني، وطريقتهم في التأليف أنهم يقتصرون على ما يحتاج إليه المبتدئ، ثم الطبقة الذين يلونهم، يذكرون ما ذكروه للمبتدئين، ويزيدون عليه مما يحتاجه المتوسطون، فهل المقنع مجرد من الأحكام الموجودة في العمدة؟ لا، وهل الكافي مجرد عما اشتمل عليه المقنع؟ لا، موجود فيه كل ما ذكر في هذه الكتب، والتكرار عند أهل العلم مقصود، ولذا يعمد بعض الناس إلى ذكر زوائد الكافي على المقنع مثلاً، أو ذكر زوائد المقنع على العمدة، هذه طريقة ما غابت عن بال أهل العلم حينما ألفوا هذه الكتب، إنما يستفيد الطالب من هذا التكرار.