ثم قال ابن القيم -رحمه الله-: "قلت: الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، أو من غزارته وسعته –يعني ليست مذمومة مطلقاً- الجرأة على الفتيا تكون عن قلة العلم، مش مثل هذا -قليل العلم- إذا تصدر للناس، وسئل عن مسائل إذا قال: لا أدري، لا أدري، قلة علم وما عنده شيء؟ لا تطاوعه نفسه، وهواه وشيطانه؟ أيش معنى أنك ما تدري، ليش تتصدر للناس وأنت لا تدري؟ هكذا يسول له، هذا من قلة علم، فلا يجرأ على الفتيا خشية أن يقال: هذا ما هو شيء، إذا قال: لا أدري كم مرة. . . . . . . . . استفاضة بعلم وعمل وفضل وخير وصلاح، سقط من أعين الناس، فيخشى أن يسقط من أعين الناس فلا يقول: لا أدري، ومن غزارته وسعته، بحيث يكون الدليل والبرهان عنده مثل الشمس، مثل هذا ما يتردد إلا من جهة واحدة، إذا وجد من يكفيه الفتيا -وإن كان غزير العلم واسع العلم ودفع الفتيا إلى من تبرأ الذمة بالإحالة إليه- مثل هذا يحمد؛ لأنه وإن كان غزير العلم واسع الاطلاع، فيجيب عن كل مسألة لا بد أن يصاب بشيء؛ لأن النفس البشرية ضعيفة، إذا تتابع الناس على مدحه والثناء عليه والإشادة به، يخشى عليه، يخشى عليه ويخشى على غيره أن يفتن به.
يقول: فإذا قلَّ علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه، ولهذا كان ابن عباس -رضي الله عنهما- من أوسع الصحابة فتيا، وقد تقدم -يقول ابن القيم- أن فتاواه جمعت في عشرين سفراً، وكان سعيد بن المسيب -أيضاً- واسع الفتيا.
المقصود أنه إذا كان هناك علم، فلا يخلو إما أن يتعين عليه الجواب فلا يجوز له حينئذ أن يتأخر عن الجواب، إذا لم يتعين عليه، وصار بالنسبة له واجباً على الكفاية، وأحال على غيره؛ تورعاً أو خشية من أن يَفتن أو يُفتن، مثل هذا يمدح، لكن إن أجاب فهو الأصل.
أقول: من ابتلي بالفتيا وتعينت عليه فعليه بالورع، وعليه بصدق اللجأ إلى الله -سبحانه وتعالى- أن يعينه ويسدده ويوفقه للصواب، وعليه –أيضاً- بقراءة ما يعينه إلى معرفة آداب المفتي وشروطه.
ومن أهم ما كتب في ذلك الكتاب الجامع النافع الماتع (إعلام الموقعين عن رب العالمين) لابن القيم-رحمه الله تعالى-.