للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال الإمام ابن القيم: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).

فذكر سبحانه لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد:

إحداهما أن يقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين؛ فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل.

والثاني أن يقولوا: (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) وهم آباؤنا المشركون: أي أفتعاقبنا بذنوب غيرنا؟

فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم؛ إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون وآباؤنا الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها.

وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.

وهذا لا يناقض قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١). فإن الرسول يدعوإلى التوحيد ولكن الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع (٢) لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم.

فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن بأن الله ربهم، ومعرفتهم أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله في تصديق رسله؛ فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني؛ لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له؛ فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب.

ثم إن الله - سبحانه - لكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه - وإن كان فاعلاً لما يستحق به الذم والعقاب - فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما: إحداهما: ما فطره وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم. والثاني: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله؛ فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا كما قال تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (٣). فلم ينفذ عليه الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين، وهذا غاية العدل" (٤) أ. هـ.

وقال ابن كثير: في معرض التدليل على أن المراد بالإشهاد هو فطر العباد على التوحيد:

"قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا (٥) هذا (٦)، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا (٧) - كما قاله من قال - لكان


(١) سورة الإسراء، الآية: ١٥.
(٢) بياض في الأصل، والسياق يقتضي وضع "وإلا".
(٣) سورة الأنعام، الآية: ١٣٠.
(٤) أحكام أهل الذمة (٢/ ٥٦٣ - ٥٦٤) - تحقيق: الدكتور صبحي الصالح.
(٥) أي: "بالإشهاد".
(٦) أي: "فطرهم على التوحيد".
(٧) أي: "الإشهاد الحقيقي، والخروج من صلب آدم عليه السلام - حقيقة - لأخذ الميثاق".

<<  <   >  >>