أنا أجلس كل عشية على سطح منزلنا في (الأعظمية) أشرف على الحقول التي تمتد إلى غير ما حدّ، أرقب الشمس وهي ترجع إلى خدرها، والفلاحين وهم يؤوبون إلى منازلهم في خط طويل متسلسل كأنه نهر جار، نهر يجري منذ عصور مديدة لا يقف ولا ينقطع ولا يبلغ مصبَّه، يسوقون دوابهم التي أنهكها العمل، وأضناها الكد، كما أضنى أصحابها الشغل المتواصل في الحقول، الشغل السرمديّ الذي يبدأ مع الفلاح حين تبدأ حياته، ولا ينتهي حتى تنتهي، يشتغلون وهم أطفال، ويشتغلون وهم شباب، ويشتغلون وهم شيوخ، لا يستريحون ولا ينالون على تعبهم إلا لقمة من خبز الشعير.
فيا لروعة الواقع!
هؤلاء الذين يشتغلون هم ونساؤهم وأطفالهم ودوابهم ليقدموا للناس القمح لا يأكلون خبز القمح! هؤلاء الذين يرفعون عماد الدولة لا تدري بهم الدولة، ولا تهتم بهم! هؤلاء الذين يملؤون بالذهب صناديق السادة الكسالى يحتقرهم السادة، ولا يدعون في جيوبهم قرشاً يشترون به ثوباً نظيفاً لطفلهم الذي يتبع طفل السيد، كأنه الكلب الجائع يسأله قطعة من (العيش) الأبيض الذي يزرعه أبوه هو، فلا يعطيه إلا الحجر الذي يرجمه به، إنه يستنكف عن أن يمسه بيده الناعمة الرَّخْصة البنان.
كنت أرى ذلك فيذهب بي الفكر إلى عشرات من المشاهد رأيتها في قرى الشام وفيما زرت من قرى مصر.
يذهب بي الفكر إلى حوران يوم زرت رفيقاً لي كان معلماً في إحدى