لقد كانت معركة (عين جالوت) أجل خطراً، وأعظم أثراً، وأبرك على الحضارة، وأجدى على الإنسانية، من موقعة (الحدث)، ولكنها لم تجد الشاعر العبقريّ الذي ينهض بها، ويرفعها بيمينه يلوح بها في طريق التاريخ، ليراها الناس أبداً، أمة بعد أمة، وجيلاً عقب جيل، كما صنع المتنبي بموقعة (الحدث) حين فتح لها في الشعر فتحاً لم يفتح مثله (سيف الدولة) في بلاد الروم، وبنى لها في الأدب قلعة باقية، على حين قد خرب الدهر تلك القلعة التي بناها سيف الدولة، فكان من معجزات الشعر (وإن في الشعر لإعجازاً) أن خلدت هذه الموقعة، وجلت وملأت الأسماع والأفواه والقلوب، ونسيت مواقع أعظم منها، ولولا قصيدة ابن الحسين ما عرفت طريق الخلود.
ولقد كان فتح عمورية عظيماً في الفتوح، ولكن فتح حبيب في بائيته أعظم منه. ومن قبل خلدت بلاغة هوميروس بطولة القوم في طروادة، ولولاه لضاعت في ظلام ما قبل التاريخ. وإني لأكرم القراء أن أسيء بهم ظني فأرى بهم حاجة إلى سرد الأمثلة، وإقامة البينات، على أمر ما بِهم جهْله ولا نكرانُه، فلولا الأدب ما خلدت المكرمات، ولا ذكرت البطولات. ورب قصيدة تجيش بها نفس شاعر منكر مجهول، قد شغل الناس عنه سناء الأمير ورواؤه، أبقى على الدهر من هذا السناء وهذا الدواء. وربما جاء زمان نسي الناس فيه الأمير نفسه، فغاص في هذا القهر البشري الذي يجري أبداً من المهد إلى اللحد، يولد أهله ويعيشون ويموتون ولا يدري بهم أحد لا يذكرهم إنسان ولم يمسسه من الخلود إلا النفحة التي ينفحه بها الشاعر.
هذا حق لا يجهله أحد إلا ذوو السلطان منا، وكانوا هم أولى بمعرفته