أساسها وحقيقتها، وليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة حتى تؤديها إلى أصحابها (فقط)، فإن هذه صورة من صورها، وشكل من أشكالها، وإن السلطان في يد الموظف أمانة، فإن وضعه في غير وضعه، أو اتخذه وسيلة إلى جلب منفعة له أو لأسرته أو لأصحابه فقد خان أمانته، والدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان، فإن أعطى منها واحدة لغير مستحقيها أو منع واحدة من يستحقها أو راعى في منحها شفاعة أو صداقة أو بغضاً أو موجدة فقد خان أمانته، والقدرة على الحكم أمانة في يد القاضي فإن زاغ عن الحق شعرة فقد خان، والعمل أمانة في يد الأجير المستصنع، فإن قصَّر في تجويده أو أفسد فيه شيئاً ولو كان الفساد خفياً لا يظهر فقد خان، واعتقاد الناس بك الصلاح والتقى أمانة في يدك، فإن اتخذت هذا الاعتقاد سبباً إلى جمع المال، وعملت من لحيتك العريضة وعمامتك المنيفة شبكة لاصطياد الدنيا، أو كتمت الحق ابتغاء الحظوة عند العامة أو الزلفى إلى الحاكم فهي خيانة، إلى غير ذلك من الصور والأشكال.
بل إنك إذا دققت وتلطفت وجدت هذه الجوارح التي أعطاكها الله أمانة في يدك، فإذا نظرت بعينيك إلى حرام أو حركت به لسانك أو خطوت إليه برجلك، أو مددت إليه يدك، فقد خنت أمانتك، بل إن عمرك كله أمانة لديك، فلا تنفق ساعة منه إلا فيما يرضى (صاحب الأمانة)!
فأين المسلمون اليوم من هذا؟
لقد رأيت من قلة الأمانة، عند الصناع والتجار والعلماء والجهلاء ومن يظنّ به المغفلون الولاية ويرونه قطب الوقت (١) ما لا ينتهي حديثه ولا العجب منه، وما خوفني الناس أن أعاملهم، حتى جعلني أحمل هماً كالجبل ثقلاً كلما عرضت لي حاجة لابد فيها من معاملة الناس، ولا والله لا أتألم من اللص يتسور عليّ الجدار ويسرق الدار، كما أتألم من الرجل يظهر لي المودة ويعلن التقى، فإذا كانت بيني وبينه معاملة، وتمكن مني أكلني بغير ملح وتعرَّق عظامي!
(١) حكاية القطب والأوتاد لا أصل لها في نقل ولا عقل، ولم يرو في ذلك إلا حديث ضعيف في «الأبدال» لا يثبت بمثله حكم، وهي من بقايا الوثنية الأولى.