من البدهيات في النظم السياسية المعاصرة أنه ليس هناك إرادة مطلقة للأكثرية، فلها صلاحية واسعة لكنها في النهاية محددة بقائمة من الحقوق لا يمكن أن تتجاوزها، فلا يمكن للأكثرية أن تنتهك أي حق من الحقوق المتفق عليها دوليًا، ولا يمكنها أن تعتدي على أي حق من حقوق الأقلية أو تضيق عليها فيه، فهذه الحقوق هي من المبادئ فوق الدستورية التي لا يمكن التعرض لها وليست هي محلًا للتصويت.
محل الخلاف مع أصحاب هذا الاتجاه أنه يقبل بهذه الحقوق والحدود ويرفض أن تكون (حاكمية الشريعة) ضمن هذه الحدود، فالشريعة لا بد لها من التصويت ولا يمكن أن تحكم من دون تصويت، ولا يمكن أن تكون مبدأ فوق دستوري، وأما الحدود التي وضعتها (الليبرالية المعاصرة) فهي حدود فوق دستورية ولا يمكن للأكثرية أن تتعرض لها.
أرأيتم؟ فالحقيقة أن الخلاف ليس بين (سيادة الشريعة) و (سيادة الأمة)؛ لأن الأمة في النهاية سيادتها مقيدة وتعمل في إطار معين، الخلاف هو بين (سيادة الليبرالية) على الأمة أو (سيادة الشريعة) على الأمة، فلا إشكال في القبول بقيود الليبرالية، وأما قيود الإسلام فيقف دونها ألف إشكال؟
فحين يتحدثون عن (مسار تعاقدي) للأمة لا يمكن فرض أي شيء عليها، وإلا فهو تغلب واعتداء عليها؛ لا يتحدثون عن مسار مفتوح تفعل الأمة ما تشاء، بل هو مسار محكوم بإطار وحقوق وأعراف شائعة لا يمكن أن تتجاوزها، ومع هذا هو راضٍ خاضع مقر بكل ما فيها من حدود، وإنما تتحرك الإشكالية في وجه حكم الشريعة، ثم يُظن أن الخلاف ربما يكون لفظيًا أو من مساغات الاجتهاد!