ما تفتأ الأفكار تحمل وتلد، وما تني المطابع تتلقَّى الولائد وتلفها بالثياب، وتخرجها للناس كتباً، فلا يدري القارئ من كثرتها ماذا يقرأ، ويحار المرء من تعدُّدها ماذا يختار. ولكن العبقري في الكتب كالعبقريّ في الناس، لا تراه الدنيا إلا مرة واحدة في الدهر الطويل، ولا يكون إلا واحداً في ملايين. أحْصِ السابقين من العباقرة في الأمم كلها تجدهم قد جمعهم لقلتهم سجل واحد، وضمَّت أسماءهم صحيفة، ثم اذكر كم من ملايين البشر عاشوا معهم، وتنفَّسوا الهواء الذي كانوا يتنفَّسونه، وأكلوا من الطعام الذي كانوا يأكلونه، ثم طوتهم الأيام، ونسيهم الناس، فكأنهم ما ولدوا ولا عاشوا، بل ربما كان في هؤلاء المنسيين المجهولين من كانت له دنيا أعرض من دنيا أولئك العبقريين، وكانوا يتمنَّون الأقل منها فلا يصلون إليه، وكانت لهم منزلة وكان لهم سلطان، ولكن الزمان محَّص الحقائق ومَازَ الأباطيل، فإذا ذلك السلطان زبَدٌ يذهب جفاء، وإذا العبقرية تمكث في الأرض لأنها تنفع الناس. وكذلك الكتب، فربَّ كتاب يطبَّل له ويزمر، ويقام له ويقعد، وآخر لا يدري به أحد، يبطل الزمان الأول، ويبقى الثاني خالداً. ولقد قرأت في بعض ما قرأت من شعر الإفرنج كلمة أحسبها لتيوفيل غوتييه يقول فيها مخاطباً الملك العظيم لويس الرابع عشر:«لقد نسي التاريخ اللآلئ التي كانت في تاجك أيها الملك، ولكنه لا يزال يذكر الرقع التي كانت في حذاء كورني». كما نسي التاريخ ألوف الأمراء والملوك إلا ما خلَّده شاعر حين أمرَّ اسمه على لسانه في قصيدة من قصائده.
هؤلاء الرجال العبقريون، وهذه الكتب العبقريات، التي لا تقوى حدود البلدان، ولا فوارق اللسان، على إبطال فتنتها، وإذهاب روعتها، هذه الكتب