ذهبت مرة أزور الأستاذ «الزيات» في دار الرسالة، وكانت زيارته أحبَّ شيء إليَّ وأنا في مصر، وكانت دار الرسالة أقرب الأمكنة في القاهرة إلى قلبي، فلذلك كنت أؤمها كل يوم، ولولا خوفي من ملل الأستاذ ما كنت لأفارقها ... أقول إني ذهبت أزوره مرة فوجدت عنده شاباً أسمر اللون لطيفاً هادئاً تبدو عليه سيما المسالمة والموادعة والإيناس، فقال لي: إني أعرِّفك بالأستاذ سيِّد قطب، وأحلف أني شدهت، وكنت أرتقب أن يكون هذا الشاب أي إنسان في الدنيا إلا سيد قطب، وكنت أستطيع أن أتخيل سيد قطب على ألف صورة إلا هذه الصورة، وازددت يقيناً بأن من الخطأ البينِّ أن تحكم على شخص الكاتب بكتابته، أو تعرف الشاعر من شعره، وفوجئت مرة أخرى بما لا أرتقب حين تفضل فأهدى إليَّ كتابه «التصوير الفني في القرآن». لأني لم أتخيل سيد قطب إلا مقارعاً محارباً، ولم أعرفه إلا كاتباً مجادلاً مناضلاً، يهاجم مهاجماً ومدافعاً ومحايداً .. وذهبت فقرأت الكتاب فوجدت فتحاً والله جديداً، ووجدته قد وقع على كنز كأن الله ادَّخره له، فلم يعط مفتاحه لأحد من قبله حتى جاء هو ففتحه، وشعرت عند قراءته بمثل ما شعرت به عند قراءة «دفاع عن البلاغة» لسيد البلغاء الزيَّات، وجرَّبت أن أكتب عنهما فما استطعت، إكباراً لهما وإعظاماً لشأنهما، وكذلك الأثر الأدبي إذا هبط إلى قرارة الفساد أو سما إلى ذروة الجودة، أعجز النقَّاد وابتلاهم في الكتابة عنه بأضعف التكاليف، فأنا أُقرُّ بالعجز عن نقد هذين الكتابين، وعن نقد (شعر ...) بشر فارس أو أبحاث سلامة موسى، لأن من تحصيل الحاصل أن تقول للجيد لا شك فيه، هو جيد، وأن تقول للفاسد المتَّفق عليه هو فاسد، لأنك كالذي يقول للشمس أنت مضيئة وللَّيل أنت مظلم!