يا سادتي! أحب أن أكون هذه العشيَّة مؤرخاً لا شاعراً، وأن أعرض عليكم حقائق ثابتة بأسلوب هادئ، فلا أفخر ولا أبالغ، ولا أملأ الآذان إغراقاً وتهويلاً، فإذا سمعتم مبالغة فاعلموا أن الواقع هو الذي يبالغ، وما هو ذنبي إذا كان قضاتنا الأولون قد نظموا بأعمالهم قصائد دونها في الفخر معلَّقة ابن كلثوم، وجعلوا من مناقبهم مفخرة خالدة لكل من قال:«أنا عربي»، أو قال:«أنا مسلم» ... وكانوا أعلام الهدى في طريق العدالة، وكانوا الدراري في سماء القضاء، قد بذُّوا كل سابق وفاتوا كل لاحق، وما كان مثلهم، ولا أحسبه يكون!
إني والله آخذ تاريخهم فأختصره وألخِّصه وأعرضه عليكم، وربما أشرت إشارة عابرة إلى القصة لو سمعتموها على أصلها ما دريتم لفرط ما يخالطكم من السموِّ والزهو وهزَّة الطرب وإخذة العجب، أفي أرض أنتم أم في سماء ... لاتعجبوا، ففي تاريخنا من الأمجاد ما لو أفيض على أفراد البشر لجعلهم كلهم عظماء!
وبعد، يا سادتي، فإن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها. ارفعوا القضاء من تاريخ الإنسان يهبط إلى درك البهائم، ويأكل القوي من بني آدم الضعيف، وإن معنى الإنسانية وحقيقتها في الحياة المجتمعة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى فيها أحد على أحد، والتي تصان فيها الحيوات والحريَّات، وتحفظ الدماء والأعراض، ويتحقق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كله إلا بالقضاء.