ولا بد بعد من تحديد معنى (الذهن)، فماذا يريد به الأستاذ قطب؟ أما أنا فأطلق العقل وأريد القضايا العقلية المسلمة المتفق عليها، كاستحالة اجتماع النقيضين، وكمبدأ أن الشيء هو ذاته، فهذه البديهيات هي أول ما يراد بالعقل، ومن هنا نقول مثلاً إن ديننا الإسلامي لا يناقض العقل ولا يخالفه، أما الذهن فأفهم منه أنا العقل الفردي، وليس كل ما تعقله في ذهنك يجب أن يكون صادقاً وصحيحاً، لاحتمال الخطأ في الاستدلال، ولاختلاف الذهنين في القضية الواحدة، مع ادِّعاء كل منهما أن حكم العقل معه.
ولا بُدَّ أيضاً من التفريق بين خَيِّر العواطف وشرِّيرها، فالشفقة على الفقير، والإقدام على إنقاذ الغريق عاطفة خير، ولكن الغضب المؤدي إلى العدوان، والحب الموصل إلى الرذيلة عاطفة شرّ.
...
ولندخل الآن في موضوع المناظرة، هل يكفي الذهن وحده، أي المحاكمة المنطقية الجافة، للإيمان؟ الجواب (لا) ممدودةً مؤكدة مكتوبة بالقلم الجليل لا الثلث!
الإيمان محلّه القلب لأنه أكبر من أن تتَّسع له هذه (المحاكمة) وأعلى من أن ينضوي تحتها، هذا العقل إنما يعتمد على الحواس، وحكمه مستمد من مجموع المحسَّات، فإذا جاوزها إلى ما وراء المادة لم يكن له حكم، وهذا أمر تواردت عليه الأحاديث النبوية وأبحاث أكابر فلاسفة الأرض، قال عليه الصلاة والسلام:«إذا ذكر القضاء فأمسكوا» أو ما هذا معناه، لماذا؟ لأن مسألة القضاء والقدر، ما خاض فيها العقل إلا كفر، لا لأنها مناقضة له بل لأنها أوسع من طاقته، وهذا عقلي يحاول أن يورد عليّ الآن اعتراضات كثيرة فلا أصغي إليه، وأذكر (ولا يحضرني هذه الساعة المرجع) أن بعض الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكوكاً يجدها، قال: أوجدت ذلك؟ قال: نعم، قال: استعذ بالله. ولم يأمره بإعلانها والبحث فيها - وهاك الفيلسوف الأكبر كانتْ يؤلف كتاباً برأسه هو (نقد العقل) في إثبات هذا الأمر، ويبطل في كتابه الآخر (مقدمة لكل