للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

هذا الذوق عليه وسلبه إياه شيئاً من حريته، ولا أحْسَبُ أن أبا نواس مثلاً كان يستطيع أن ينظم هذا الشعر المخجل (١) لو أنه كان في وسط لايقبل ذوقه الأدبي، هذا النوع من الشعر. وأرجو أن لا يفهم مني القراء أن عصر أبي نواس كان عصر مجون وتهتك، فما هذا أردت ولكني أردت أن أقول إن زمان أبي نواس كان فيه من يتذوق هذا النوع من الأدب ويسيغه، كما أن في زماننا من يتذوقه ويسيغه، ويردده بمناسبة وغير مناسبة!

على أن الذوق الأدبي العام، ليس إلا نتيجة لهذه الحوادث السياسية والاجتماعية والعلمية فإذا نحن ألممنا بهذه الحوادث واستنبطنا منها طبيعة هذا الأثر من الوضوح، إذ إن الأدباء لا يتأثَّرون بالزمان على مقياس واحد، ولايخضعون له خضوعاً مطلقاً، بل قد ينشأ فيهم من يتمرَّد على هذا الذوق ويَخْرقه، ويقيم نفسه عدوّاً له. غير أن العداء لا يخرج في رأينا عن أن يكون (عملاً منعكساً) عن تأثير هذا الذوق فيه ولن تجد أديباً في نجوة من تأثير الزمان أو البيئة.

البيئة:

أما الزمان فقد عرفت أننا نعني به الذوق الأدبي العام، فماذا نعني بالبيئة؟ إن البيئة هي هذا الوسط الذي يعيش فيه الشاعر، وهذه البقعة التي يستنشق هواءها، ويتمتَّع بمشاهدها، ويرى وجوه أهلها، ويتكلم بكلامهم، ويقتبس عاداتهم، فيؤثِّر ذلك فيه من حيث يشعر أو لا يشعر ولهذا بالغ بعض النقَّاد في تقدير أثر البيئة في الأدباء، حتى زعموا أن الأديب ليس له من الأمر شيء، وما هو إلَّا مرآة تنعكس فيها صُوَر البيئة وأشكالها، وسواء أكنَّا من أصحاب هذا الرأي أم لم نكن، فإن البيئة من أكبر العوامل في تكوين أخلاق إلانسان. وإن البيئة الصالحة يكون حصادها أناساً صالحين، والبيئة الفاسدة تكون ثمرتها أناساً فاسدين، بل إن الرفاق وهم بعض من هذا الكلِّ الذي نسمِّيه البيئة، يرجع إليهم الفضل في صلاح رفيقهم وعليهم الوزر في فساده.


(١) في أدباء الغرب كثيرون على غرار أبي نواس كويلد الإنكليزي وجيد الفرنسي!

<<  <   >  >>