قال الصبي: فما سمعت اسمي حتى ارتجفت ووقفت ساكتاً، ولم أكن قد حفظت درسي، فقال لي الأستاذ:
اقعد، أنا لا أعنفك ولا أعاقبك، ولكن اعلموا، اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم وسلمتموها إلى عدوكم بإهمالكم لغتكم (١).
...
وتركت الجريدة القديمة، ووقفت عند هذه الجملة، وقفت لأذكر ما تبذل أمم الأرض في العناية بلغاتها وما نصنع نحن العرب بلغتنا، وقفت لأذكُرَ كَمْ أسمع كل يوم من العبث باللغة والنحو والصرف، ورفع المنصوب، ونصب المرفوع، لا من التلاميذ الصغار وحدهم، ولا من الناشئة التي قد تعذر إن لحنت على لحنها. بل من السياسيين والمحامين والمدرسين، في البرلمان وفي المحكمة وفي المدرسة، بل إني لأسمع اللحن من أفواه الأدباء وأقرؤه في كتبهم، المجلات مملوءة باللحن، والقصص المطبوعة مملوءة باللحن، والكتب الجديدة مملوءة باللحن، وفي كل مكان لحن ظاهر، يتأدب به الصغير، وينشأ عليه الناشئ. وممن سمَّاهم الناس أدباء وشعراء من لا ستطيع أن يكتب صفحة واحدة صحيحة، ولا يقدر أن يقيم لسانه في صفحة واحدة. لقد فشا اللحن، وانتشر الجهل، وعم الضعف، وفقدت العربية المدافع والمحامي.
ولقد قلت لكم إن اللغة الإنكليزية (مثلًا) فيها حروف تكتب ولا تقرأ، وحروف تقرأ وهي غير مكتوبة، وحروف تقرأ مرة شيئاً، ومرة شيئاً آخر، ولا بد لكل طالب لهذه اللغة من أن يتعلم كيف يكتب كل كلمة فيها ثم يتعلم كيف تلفظ، وهي بعدُ لغةٌ سماعية، لايطَّرد فيها قياس، ولا تعرف لها قاعدة، ومخارج حروفها عجيبة، وألسنة أهلها ملتوية، ثم إنها لغة ليس لها نسب ثابت، ولا أصل معروف، ولا يفهم إنكليزي اليوم كلام الإنكليز في عصر المعري والشريف الرضي، فضلاً عن عصر امراء القيس وزهير. وألفاظها لُمامَة من الطرق، من كل لغة كلمة، ففيها كلمات ألمانية وكلمات فَرنسية وكلمات من العربية.